مقدمة:
الكتاب المقدس هو كتاب يتضمن كتابة وهذه الكتابة تتحدث عن الله، عن تاريخ شعب، عن اليهود، عن المسيح، عن حياة، وكُتِبَ هذا الكتاب بواسطة أشخاص كتبوا عن حياة شعب.
مثلاً: سفر الخروج الذي عاشه شعب يرأسهم شخص هو موسى.
ومن الجدير بالملاحظة أن هناك بين كتابة الحدث والفترة التي صار فيها هذا الحدث فترة زمنية، تُسمَّى هذه الفترة بالتقليد الشفهي.
ما هي علاقة الشعب في العهد القديم بالله؟
كان الله مع شعبه يقودهم ويكشف لهم ذاته ويوحي بذاته لهم. إذاً ما يميز هذه الحقبة من التاريخ كان الوحي الإلهي، وفي أثناء كتابة الحوادث والقصص كان الله مع الذين يكتبون يوحي لهم ما يجب أن يكتبوه، أي أنّ الله معنا يساعدنا لنعيش ونكتب.
لماذا الكتاب المقدس؟
لكي نقرأه ولكن قراءة عيش وليس قراءة مجلة أو صحيفة. فالكتاب المقدس هو قصة حياة من أجل الحياة. والسؤال هل هناك وحي؟ نجيب بنعم لأنّ الله معنا بشكل دائم، والذي يجعلني أقرأ قراءة صحيحة لأعيش الوحي بشكل صحيح هو تعليم الكنيسة لأنّ الكنيسة تجعل لنا طريقاً واضحاً لنسير عليه في قراءتنا، ولو لم يكن هناك بين أيدينا تعليم الآباء وتعليم الكنيسة بواسطة أشخاصها ومجامعها لكنّا لا نفهم شيئاً من الكتاب المقدس.
ملاحظات: الكتاب المقدس:
1- الكتاب المقدس يشبه جوزة الهند، من داخلها الذي هو لذيذ جداً، ولكن لكي نصل إلى الداخل يجب أن نمر بصعوبات كبيرة (منظرها وقساوتها) وهذا هو الكتاب المقدس، فمن الخارج قاسٍ ولا يجذب ومتعدد اللغات، ولكن من خلال تجاوز هذه القشور أصل إلى اللب الذي هو يسوع المسيح، فالمشكلة تكمن في أن نفكر بأنّ القشرة هي اللب أي أن نأخذ الكتاب المقدس بحرفيته… وهذا هو أكبر خطر، يقول المجمع البابوي لتفسير الكتاب المقدس: كل محاولة قراءة أصولية (حرفية) هي محاولة إنتحار للجنس البشري أي عندما أفكر بأنّ القشرة هي يسوع المسيح أكون في محاولة للإنتحار. ويجب ألا نخاف من أن نضع الكتاب المقدس تحت "الميكروسكوب" ونفحصه جيداً وهذا لا يعني أن أضع يسوع تحت الميكروسكوب وأفحصه بل أن أعرف ما معنى هذه الكتابة ولماذا كتبت ولماذا هي متنوعة ومختلفة.
2- إنّ الكتاب المقدس هو كتاب مشترك بين الديانات الثلاث ولكن هذا لا يعني أنّ المسيحية هي دين كتابي لأنها مؤسسة على شخص هو يسوع المسيح ومن خلال الكتاب نفتش عن يسوع.
3- الكتب المقدسة تُجمع كلها في كتاب واحد، فالكتاب المقدس هو مكتبة بما تحمل الكلمة من معنى، وهذه المكتبة تصنَّف فيها الكتب بعدة طرق: حسب التاريخ، حسب الأشخاص…
4- يجب أن نميز بين تاريخ شعب الله وبين تاريخ الكتاب المقدس فنحن الذي سندرسه هو تاريخ شعب الله مع العودة من وقت إلى وقت إلى تاريخ الكتاب المقدس.
لماذا هناك قصص تاريخية كثيرة في الكتاب المقدس؟
في عالم الكتاب المقدس لأنه ليس منزل للزمن والوقت مهمة خاصة، فالله كشف ذاته في التاريخ البشري من خلال حوادث متتالية فيها يكشف الله عن ذاته. فالتاريخ يبين لنا مهمة خاصة في المسيحية وظهر هذا التاريخ بشكل خاص في التجسد الذي هو حضور الله بيننا، وما التجلي الإلهي إلا ظهور الله المتجلي لنا من خلال التاريخ. والله في المسيحية دخل في الزمن وكسر الزمن الذي كان يسير عادياً، والأعياد أصبحت لولبية متجهة نحو الله بعد أن كانت دائرية تنطلق من نقطة إلى أخرى لتعود إلى نفس النقطة. فالله كسر الزمن بتجسده وقيامته وجعله يصير زمناً خارجاً عن الإنطلاق من نقطة والرجوع إليها. إذاً هناك قصص كثيرة لأنّ الله كان يكشف ذاته من خلال التاريخ، ونحن لا ندرس تاريخ الوحي، بل ندرس التاريخ الذي هو وحي. فتاريخ شعب الله هو محاولة كشف ذات الله.
ما هو الحدث التاريخي؟
الحدث هوكل شيء ممكن أن نتذكره، فالأحداث التاريخية هي التي تبقى في الذاكرة وهذا معناه أنّ هذا الحدث يحمل لي رسالة، ويهمني ويعنيني ولأجل ذلك هو حدث تاريخي. فالأحداث في الكتاب المقدس هي الأحداث التي تحمل لنا معنى روحياً وتكشف لنا عن بعض ما لله. وهذه الأحداث التاريخية ذات المعنى الروحي هي التي تجعل التاريخ تاريخ خلاص لأنّ الله تدخل في التاريخ وكشف ذاته في التاريخ؛ وما عمل الكاهن اليوم على المذبح إلا تأوين لعمل الخلاص.
هل جميع الأحداث هي صحيحة؟
يجب أن نميز بين ما هو مطابق للواقع وبين ما هو صحيح. ما معنى حدث مطابق للواقع: أي حسب ما حدث في التاريخ. ما معنى صحيح: أي أنّ هذا الحدث المطابق للواقع أو غير مطابق للواقع يحمل معنى روحي أستطيع أن أعيشه اليوم.
فآدم وحواء يحملان معنى روحي، هو أنّ أصلنا من عند الله ويجب أن نحافظ على هذا الأصل. فحدث آدم وحواء هو غير مطابق للواقع لكنه صحيح، فكل الأحداث هي صحيحة ولكن ليست كل الأحداث مطابقة للواقع، هذا في العهد القديم؛ أما في العهد الجديد، فكل الأحداث هي صحيحة ومطابقة للواقع ومن الممكن التأكد منها تاريخياً (لوقا 1/1-3).
تكوين فصل 12-50: إنطلق من أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أريك.
- الآباء: إبراهيم ـ إسحق ـ يعقوب : تك فصل 12-50
- الإقامة في مصر، الخروج والتشرّد في الصحراء: خر 1-18 ، عدد 10/11 ـ 20/13.
- الإقامة في سيناء: خروج 19؛ أحبار؛ عدد1و10/10
- إحتلال منطقة عبر الأردن: عدد 20/4-36؛ تثنية الإشتراع.
واستولى يشوع على البلاد: يشوع 11/16.
وسُبِيَت يهوذا عن أرضها: 2ملوك 25/21.
- الفتح وتوزيع الأراضي بين الأسباط: يشوع 1/24.
- القضاة: سفر القضاة؛ صموئيل.
- الملوكية.
a- صموئيل وشاول البنياميني: 1صموئيل.
b- داود اليهودي: 1-2صموئيل.
c- سليمان الحكيم: 1ملوك 1-11.
- إنقسام المملكة يهوذا وإسرائيل:1ملوك 12 -2ملوك.
a- الإنقسام.
b- تعاقب الملوك.
- السبي إلى بابل.
- الحكم الفارسي والعودة إلى إسرائيل.
- الحكم اليوناني.
- ثورة المكابيين.
- سيطرة الرومان ومولد يسوع.
سنتناول في بحثنا قصة الخلق إبتداءً من آدم وحواء حتى الوصول إلى نوح (طوفان ـ بابل)، ومن ثم نصل إلى أول الآباء (إبراهيم) واسحق ومن سلالته يأتي يعقوب وعيسو. يعقوب ولد 12 ولد وهم أسباط إسرائيل، ومع يوسف إبن يعقوب تصبح إسرائيل في مصر بسبب المجاعة التي حلت في أرضها (إسرائيل) وإسرائيل في مصر كانت سيدة حرة ولكنها تتحول تدريجياً من السيادة إلى العبودية. بعد ذلك يُرسِل الرب موسى الذي يُعتبر من أهم الأشخاص في تاريخ إسرائيل، ولأهميته الكبرى كان الكاهن والمشترع و…
وحتى يسوع المسيح لقبه الشعب بموسى، فشخصية موسى شخصية مهمة من الناحية التاريخية واللاهوتية والتشريعية. ومن أهم الأعمال التي قام بها موسى هو أنه قاد شعبه إلى الخروج من مصر. ومع الخروج تبدأ مسيرة العذاب والغربة في الصحراء، ومن الجدير بالملاحظة أن الشعب في تلك اللحظات العسيرة الصعبة إستطاع أن يكتشف الله من خلال الوصايا التي أنعم الله بها على شعبه، فقد كان مع كل مأساة، يحصل الشعب على خير عظيم.
هذا الزمن أساسي جداً لأن الشعب المشتت من نواحٍ عدة، أتى شخص إسمه موسى جمعه في بوتقة واحدة وأصبح الخليط شعباً تحت رايته. ومن ثم يموت موسى، لكنه قبل موته يعيّن يشوع بن نون ليرعى شعب إسرائيل، ويشوع هذا له أهمية كبرى لأنه من أساسات التجمع في شكين (خروج 24)، وهو أهم شخص أعطى تقريراً صحيحاً عن استكشاف أرض الميعاد لموسى الذي توفي على جبل نابو. ومن ثم سندرس الإقامة في كنعان (أرض الميعاد).
سيشمل بحثنا في جزئه الأول دراسة إبراهيم حتى الإقامة في كنعان.
وفي كنعان توزعت الأراضي بعد موت يشوع حسب أساطير إسرائيل، والمسؤول عن توزيع الأراضي كان يُدعى قاصنيا، وهنا ندخل في سفر القضاة الذين كانوا يُقسمون إلى قسمين: صغاراً (كالمخاتير)؛ وكباراً (يستطيعون القيام بالحملات).
بعد ذلك كان الشعب في حرب دائمة، وكان لا بدّ من تنظيمه وتوحيده، فأتت سلطة الملوك من شاول إلى داوود وسليمان. والمرحلة الملوكية تتميز بأهمية كبيرة في إسرائيل، لأنه في هذه المرحلة ستنظم الدولة بتقسيماتها ومحافظاتها وإداراتها وجيشها واتصالاتها… وهذه الأمور مهمة جداً في نقل الإيمان ونقل المعرفة، وبسبب ما صارت الدولة من تنظيم وانفتاح في المرحلة الملوكية، بدأ الشعب يختلط مع الآخرين من ذوي الديانات الأخرى. بعد ذلك بدأت سلالة الملوك بالإنحدار وخصوصاً في وقت سليمان عندما انقسمت المملكة إلى مملكة الشمال ومملكة الجنوب.
حتى موعد الحروب الأشورية في زمن نبوخد نصّر تأتي مرحلة السبي إلى بابل. هذه المرحلة هي مرحلة مهمة في تاريخ شعب الله. ففي هذه الفترة يقع الشعب في مشكلة كبيرة تمتحن إيمانه، فقد كان لهذا الشعب هيكلاً يصلون فيه، وهذا الهيكل قد بناه سليمان الحكيم وبه وحّد الشعب إيمانياً بطقس موحَّد.
ففي بابل لم يعد هناك هيكل للإجتماع والصلاة وممارسة الطقوس الدينية الموحَّدة. ويمكن أن نعتبر أن زمن السبي هو زمن إعادة النظرة العميقة الداخلية لإيمان شعب الله. ففي بابل أصبح الإيمان - يُعاش خارجياً بتقدمة الذبائح - ويُعاش داخلياً بالقلب - لذلك أصبح الشعب يستطيع أن يقول: " كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه، هكذا نفسي تشتاق إليك يا الله "، وهذا يعني أن الشعب متعطش لهيكل الله.
ففي بابل أُعيدت قراءة كل الأحداث التي رافقت إسرائيل منذ النشأة.
بعد ذلك يجيء قرار قورش الحاكم الفارسي الذي أمر بالعودة إلى إسرائيل (كنعان) فأرجع إلى الشعب كل ما أخذه نبوخد نصر من الهيكل، وأمر أيضاً بإعادة إعمار الهيكل وأعطى الشعب حقه، وكان شرطه الوحيد أن يبقى الأمن مستتباً في إمبراطوريته، وعلى هذا الأساس عاد الشعب إلى أرضه التي وعده الله بها. ومع العودة لم يعد موجوداً مع الشعب ملكاً، فأصبح الشعب يتوق إلى مخلص آخر، هذا المخلص تمثّل بالكهنة والأنبياء. ومن الملاحظ أن أغلب الأنبياء كانوا قبل السبي والبعض الآخر كان موجوداً إما في السبي أو جاؤوا بعد السبي، فأنبياء قبل السبي إنتقدوا الملوكية وفي السبي أعطوا رجاءً جديداً ونظموا السبي، وكان عمل الكهنة هو تنظيم الطقوس.
بعد ذلك يبدأ مجيء الشعوب الغربية والتي ابتدأت من اليونان وما رافقها من ثورة المكابيين حتى وصول الرومان الذين في فترة حكمهم وُلِدَ السيد المسيح وبعد يسوع تنطلق الكنيسة.
لماذا لم يُكتب الكتاب المقدس بتسلسله الزمني كما في تسلسله التاريخي الكتابي، ولماذا هناك عدة قصص عن الخلق؟
من الجدير بالذكر أن الكتابة بدأت في أيام الملوك حيث انتظمت الدولة (خصوصاً مع سليمان)، وأيضاً كُتِب الكتاب المقدس في زمن الأنبياء لأنهم قرأوا الأحداث قراءة إيمانية وقالوا إنه لا يوجد ملك سوى الله. وبعد الأنبياء بدأ الإنتاج الكهنوتي في الكتابة. ولذلك نرى في سفر واحد وفي صفحة واحدة ثلاث إتجاهات مختلفة.
إنّ التاريخ لم يُكتب من أجل التاريخ، إنما كُتب لهدف أسمى مزدوج: هدف كرازي وهدف طقسي ليتورجي. فالنصوص المكتوبة كُتِبَت لكي تُعاش في الهيكل وفي الجماعات، ونستطيع القول أن آولى الكتابات كانت القصائد، وذلك لأن في القصيدة تستطيع الذاكرة أن تستوعب اللحن بسرعة. وكان لا بدّ من الكتابة، لأنه في مجتمع منفتح على كل الحضارات والديانات كان الخوف على التقليد الشفهي من الضياع ومن تغيير عناصر الإيمان الأساسية وأيضاً كان الخوف على معنى الكلمة الصحيح أن تتغير إلى معنى خاطئ.
نرى من خلال دراستنا للكتاب المقدس أنّ هناك أحداث معادة، مثلاً: إبراهيم في مصر؛ موسى في مصر؛ يسوع في مصر… فوجود التكرار يفهمنا شيء واحد هو أن كل جماعة كَتبت كانت تكتب باسم الله، لأن الله كان يكتب من خلال هذا الشخص وأيضاً كان يَظهر لشخص آخر ويجعله يكتب أي أنه لم يكن هناك للطبع حقوق محفوظة، فالله كان الكاتب الأساسي وجميع الحقوق محفوظة له.
وأيضاً نلاحظ من خلال دراستنا أن القصص مكرَّرة وهذا يعود لسبب واحد هو أنه في قراءتي لهذه القصص أعود وأتأكد إيمانياً بأن الله كما خلصني في الماضي سيخلصني في الوقت الحاضر، فمثلاً: عندما كان الشعب في السبي كان يتذكر على ضوء إيمانه وثقته بالله أن الله كما خلصه من عبودية مصر سيخلصه من عذابه في بابل. فالله كما خلق بمحبة وخلص بمحبة، سيكمل عمله الخلاصي بمحبة، فقصد الله لا يتغير لأن الله لا يتغير.
ومن الجدير بالملاحظة في تاريخ العهد القديم أنه في كل عهد كان يبقى ما يسمى بالبقية الباقية، مثلاً: نوح هو من البقية الباقية…وإبراهيم…وموسى…حتى يوحنا المعمدان، وتختصر هذه البقية الباقية بشخص واحد ألا وهو العذراء مريم.
يُقدم لنا سفر التكوين من الفصل 12-50، تاريخ ثلاثة قبائل كبيرة وكل قبيلة مسماة على اسم سلف، وهؤلاء الأسلاف هم الآباء: إبراهيم وإسحق ويعقوب. بالحقيقة إنّ تكوين 12-50 يتكلم عن كل مجموعة من هذه القبائل بقصص تاريخية مختلفة ومميزة، فكل قبيلة لها تاريخها الخاص بها:
قبيلة إبراهيم:
هم رحّل جاؤوا من مدينة أور إلى حرّان (على الفرات) فأرض كنعان في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر قبل الميلاد. يُعتقد بأنهم سكنوا في جنوب فلسطين في بلوطة ممرا وحبرون: تك12/1-5 وَ 13/14-15.
في كل اختيار، هناك انتقال من مكان إلى مكان، ومن حالة إلى حالة، فعملية الإختيار مهمة جداً في كل قرار نأخذه مع الرب، الإنتقال من الماضي إلى مستقبل غير معروف.
عند وصول إبراهيم وعشيرته إلى أرض كنعان، كان الكنعانيون يعبدون آلهة متعددة وكأنّ عندهم ما يُسمى بإله الآلهة وهو الإله إيل، وهذا الإله كان يُعبد في "شجرة بلوطة ممرا" أو في مجرى مياه "بئر سبع" أو على "التلة" مكان تقدمة إبراهيم للذبيحة.
تعرَّف إبراهيم على الله بطريقة تدريجية أي أنه اكتشف الله شيئاً فشيئاً، ولأجل ذلك عندما وصل إبراهيم إلى كنعان وعرف فكرة إله الآلهة تبنى هذه الفكرة.
هذا الإله إيل سيتحول فيما بعد إلى إله الآباء والأجداد، وهذا معناه أنّ المعرفة الإيمانية ستتم بصورة تدريجية، فنحن نطلب المعرفة من الله، لكنّ الله هو الذي يكشف ذاته لنا، فمعرفتنا بالله لن تتم إلا عندما نذوب كلياً في الله ولن نتعرف عليه كلياً إلا عندما نلقاه وجهاً لوجه. فبقدر ما نعطي الرب من ذواتنا يعطينا الرب من ذاته…
الشيء الأكيد من القصص التي تُخبِر عن ابراهيم في الكتاب المقدس إنها إعادة قراءة للأحداث في العهد الملوكي. فنحن لا نعرف كيف عاش إبراهيم تاريخياً ولكن في وقت الملوك، أي في وقت كتابة النصوص كُتبت كل الأخبار عن ابراهيم، أي كُتبت على ضوء ما يحدث في عهد الملوك، أي هي إعادة قراءة في عهد الملوك على قصص إبراهيم.
قبيلة إسحق:
هي قبيلة عاشت في بئر سبع حسب تكوين 26/23-26. وفي هذا المكان، كان الكنعانيون يعبدون الإله إيل، الإله الإله: تك 21/33. وسكنوا في منطقة جرار. ويُخبر الكتاب المقدس أنّ إسحق تزوج من رفقا إبنة عمه ناحور وكان له منها ولدين: عيسو ويعقوب.
قبيلة يعقوب:
لقد سكنت عشيرة يعقوب حسب الكتاب المقدس في عدة مناطق:
- في بيت إيل: تك 35/1-15.
- في شكيم: تك 33/18-20.
- في محنائيم: تك 32/2-3.
- في فنوئيل: تك 32/23-33.
يمكننا أن نعتبر أنّ قصص يعقوب هي الأكثر أهمية والأكثر تعقيداً بين القبائل الثلاثة. بركة إسحق ليعقوب: تك27: هذه القصة هي قصة تفسيرية، أي يجب أن نفهم أنّ هذه القصة ليست بين أخين هما عيسو ويعقوب فقط بل هي بين شعبين. ويريد كاتب القصة أن يُفهمنا التوتر القائم بين بني أدوم (الأدوميون) وجدهم عيسو، وبين بني إسرائيل وجدهم يعقوب. فالقصة بين يعقوب وعيسو كُتبت ليبرر الكاتب سيطرة إسرائيل في أيام داود على الأدوميين، فهذا النص كُتب بهدف تربية إيمانية للشعب.
وأخيراً، يمكننا أن نستخلص أنّ ما هو أكيد أنّ الشعب الإسرائيلي وُجِدَ كجماعات في أرض كنعان حوالي سنة 1220 ق.م، وهذا الأمر المثبَّت تاريخياً عرفناه من مسلّة مرنفتاح، هذه المسلّة التي تعود لملك إسمه مرنفتاح مذكور عليها أنّ مرنفتاح هجم واندثرت إسرائيل أمامه. ومن بعض ما تقوله لنا هذه الكتابة المسمارية أنّ انسحبوا وهم يُعلنون السلام، بين المناطق التسع ولا منطقة نمت بأسرها، ليبيا دُمرت؛ بلاد الحثيين في سلام؛ كنعان أخذوا منها كل شيء؛ أثترون هُجرت؛ نيرام احتُلت؛ إسرائيل إندثرت ولم يبق منها ولا ذرة… وكل البلدان أصبحت بسلام.
السرد القصصي الرابع في الكتاب المقدس هو قصة يوسف، ويمكننا أن نقول أنّ هذا السرد المتعلق بيوسف هو الفن الأدبي القصصي بامتياز أي أنّ هذا النص هو من أجمل ما كُتب بطريقة قصصية.
نحن نعرف أنّ هذه القصة هي مجموعة كبيرة من الأساطير جُمِعَت لتبرهن أنّ وجود إسرائيل في مصر، وفي هذه النصوص (الأساطير) نرى أنّ بعض الكتّاب أبدعوا في إدخال القصص التاريخية بأساطير معينة وهذا الإبداع في إدخال القصص التاريخية على الأساطير هو في الحقيقة:
- لتأوين الخلاص: إله الآباء يرافق شعبه في كل تطوره وهذا الإله هو الذي سيتجسد فيما بعد.
- لشرح ما يحدث في الحاضر.
- ليحذِّر الكاتب مما سيجري في المستقبل.
مثلاً: حلم فرعون والسياسة التي اتبعها لتخزين القمح هي نفس السياسة التي اتبعها سليمان في فترة حكمه. فكأنّ الكاتب يقول إنه هكذا فعل فرعون في الماضي في أيام يوسف وهو يحذِّر حكام المستقبل لما يجب أن يفعلوه. فالكاتب في ذلك يبرر عمل سليمان.
إختصار المرحلة الآولى: "قبل الإقامة في كنعان"
- هناك قصص عديدة سببية (أي هناك سبب لكتابتها) هي نصوص تفسيرية أي هي نصوص تشرح سبب وجود قصة، تقليد، هي نصوص تفسِّر اسم منطقة معينة أو تفسِّر عادة شعبية أو طقس ديني أو أصل شعب معين.
- يجب أن نعرف أنّ النصوص التاريخية كُتبت بإخراج معين أي بتجميل النص أي نصنع نصاً جميلاً يُحمَّل عناصر خارجة عن المألوف وذلك بهدف مزدوج:
- هدف تربوي إيماني أي كرازي.
- هدف طقسي ليتورجي أي أنّ النص كُتب لنستطيع أن نصليه.
الخلاصة:
إسرائيل وُجدت في كنعان وهذا أمر نحن أكيدون منه لأنّ الكتاب المقدس يقول ذلك، وهناك اكتشافات تُثبت ذلك، والأهم هو أنّ التاريخ لم يُكتب بهدف تاريخي وحسب، بل كُتب بهدف إيماني.
الإقامة في مصر:
خروج 1-18
عدد 10/11-20/13
نلاحظ أنّ موسى هو الشخصية الأساسية في سفر الخروج لا بل في العهد القديم أيضاً.
وجود إسرائيل في مصر أمر مؤكد ومبين تاريخياً، لكنّ السؤال المطروح هو التالي:
"كيف وجدت إسرائيل، ولماذا وجدت إسرائيل في مصر؟".
الجواب: هناك أسباب عدة نوجز أهمها:
- الجوع: حسب ما يقول لنا الكتاب المقدس.
- التهجير في الحرب، الغزو خاصة مه الهكسوس قبل الجيل الثامن عشر ق.م.
- سجناء حرب إنتصر فيها الفراعنة.
- عبيد لبناء المدن الخزن (لتخزين الحبوب) كما يخبرنا سفر الخروج.
- وجدت إسرائيل بحريتها من أجل التجارة.
إذاً، لا نستطيع أن نجزم نهائياً الأسباب التي أدت لوجود إسرائيل في مصر، ولا نسستطيع أن نعرف خاصة في أي زمن وُجِدَ الإسرائيليون في مصر. والإعتقاد السائد هو أنّ هناك عدة دخولات في أزمنة مختلفة وفي أوقات مختلفة.
أما مكان إقامتهم في مصر، فإنّ المصادر غير البيبلية تخبرنا أنّ الإسرائيليين وجدوا في منطقة غوشن على الحدود الشرقية لدلتا النيل خاصة في مدن خزن وفيتوم ورعسيس (خروج 1/18). هذه هي المعلومة الوحيدة من مصادر غير بيبلية وهناك صمت مطلق على باقي التاريخ.
أما عن وضعهم المعيشي، فقد تميَّز هذا الوجود الإسرائيلي بعلاقات متوترة مع المصريين: "لا ننسى أنَّ الإسرائيليين هم شعب رُحَّل، رعاة، أما المصريون فهم شعب متحضِّر، سَكَنَ المدن"(تك 46/34). ومن جرَّاء هذا التوتر القائم والعبودية، كان هناك صراخ دائم للرب.
الخروج:
هو حدث مؤسِس، فقد أسَّس إنطلاقة جديدة لأرض إسرائيل، أسَّس شعب كان عبارة عن خليط من الشعوب، ونحن لا نستطيع أن نفهم شيئاً من حياة شعب الله إن لم نطلِّع على الخروج كحدث مؤسِس لشعب الله.
في الخروج:
- تأسَس الشعب، الخليط أصبح شعباً.
- عَرَفَ الشعب المؤسسات والطقوس التي ستنظم حياته.
- إجتمع الشعب تحت رايةٍ واحدة هي راية موسى.
- عمل الله أوضع عهداً مع هذا الشعب.
إذاً، فالخروج هو مؤسِس الشعب من الناحية الإجتماعية، من الناحية التنظيمية، من الناحية الدينية على الأخص.
تبقى شخصية موسى بدون شك هي الشخصية الأبرز في حدث الخروج، ولذلك سنتوقف عليها.
موسى:
يُخبِرنا الكتاب المقدس أنَّ موسى هو من أصل يهودي، إنتشلته إبنة فرعون من المياه وأخذته إلى قصرها وتربى عندها.
لإسم موسى معنيان:
معنى عبري: الذي انتُشِلَ من المياه.
معنى مصري: حامل الله، أي أنَّ الله خلق حامل هذا الإسم.
إذاً، موسى هو ثقافتان، ذو شخصيتين ثقافيتين:
الأولى: التربية الوثنية.
الثانية: التربية اليهودية.
تأتي أهمية موسى من أنه استطاع أن يجمع بشخصه ثقافتين مختلفتين.
{يسوع هو موسى الجديد، جمع بشخصه بين الشخصيتين الثقافية المادية والإلهية. ولكن يبقى الفرق بين موسى ويسوع هو : أنَّ موسى أخرج شعبه من العبودية ولكنه لم يستطع أن يُدخِلهم إلى أرض الميعاد. أما يسوع فقد أخرجنا من حال الخطيئة وعبوديتها ودخل أمامنا إلى أرض النعمة}.
هذا السر القصصي عند موسى يلتقي بسرد قصصي آخر، هو أسطورة سرغون: عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. تقول الأسطورة:
{أنا سرغون، ملك اكاد القوي، كانت أمي فقيرة، أما أبي فلم أعرفه، أما بلدتي فهي الموجودة على ضفاف نهر الفرات، حَبِلَت بي أمي وولدتني في الخفاء، ووضعتني في سلة من القصب مطلية بالإسفلت ورمتني بالماء، لكنَّ الماء لم تغمرني}.
هذه القصة موجودة بحضارة البابليين أخذها الكاتب من فكرة تاريخية وكتبها حتى يُعطي السبب الأساسي لخروج الشعب الإسرائيلي من مصر، وهو وحي إلهي، فالله هو الذي اعتنى بموسى منذ البداية ولأجل ذلك على الشعب ألا يخاف. وهذه القصة حمَّلها الكاتب أساطير لكي نعتبرها قصة حقيقية.
بكل الأحوال نستطيع القول بأنَّ موسى قد يكون ترّبى في البلاط الفرعوني على أصول الحكمة المصرية، إكتسب ما تعطيه الحضارة والثقافة والحكمة المصرية، ولكن يجب أن نكون حذرين من شخصيته التاريخية التي تعرضها البيبليا لنا. فنحن لا نستطيع أن نعرض قصة موسى من وراء الكتاب المقدس، لأنه بعملية كتابة النصوص السببية صنع الشعب من موسى نبياً، مخلِّصاً، قائداً عسكرياً، حتى إنه صنع منه كاتباً للتوراة. {الوعي البيبلي بدأ عندما بدأ علماء اللاهوت والكتاب المقدس بطرح أنَّ موسى ليس كاتب التوراة، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتجه الإكتشافات والأبحاث إلى عالم اليوم. ولولا ذلك لبقينا نعتبر أنَّ موسى هو كاتب التوراة. فليس من المعقول أن يكون هناك شخص واحد يكتب الأخبار وهذه الأخبار تناقض بعضها البعض. فمشكلة موسى بدأت من سنة 1500-1600 وبعد ذلك بدأ الوعي والتطور الفكري}.
إذا اعتبرنا أنَّ إبراهيم هو جدّ السلالة، جدّ العرق اليهودي، فإنَّ موسى هو أبو الأمة. والكتاب المقدس يخبرنا بمرحلة أخرى أنه لأنَّ موسى وقف بجانب شعبه إضطر لأن يهرب. فالمرحلة الثانية من حياة موسى هي الهروب:
هروب موسى يشبه هروب العديد من الشخصيات الموجودة في الديانات الأخرى {كقصة الملك سنيويه: كان هذا الملك قائماً بأعمال الملك المصري، واكتشف العلماء 330 سطراً على أوراق البردى، يخبر فيه قصته، كيف هرب من وجه الأشخاص الذين سيقتلوه ويذهب إلى قبيلة تستقبله ويتزوج من بناتها}.
فبعد هروب موسى، نجد أنه التجأ إلى قبيلة مدين: قبائل رُحَّل عاشت في الشرق والجنوب من فلسطين. (خروج 12/15 ، خروج 2/18 ، خروج 3/1 ، قضاة 1/16).
نرى أنَّ موسى سكن في:
ومع هروب موسى يلتقي بالرب في العليقة المحترقة أو الملتهبة (خروج 3/1-15). ويتسلم منه مهمة تحرير إسرائيل من العبودية، وبالعودة إلى مصر يعطي الرب موسى تسع علامات لفرعون وعندما لا يستجيب فرعون يعطيه الضربة الوحيدة.
الرب لم يعطِ لفرعون عشر ضربات بل أعطى تسع علامات ليقول له أنظر وانتبه. هذه القصص (العلامات - الضربات) تخلق عدة تقاليد أدبية مما يعطي هذه الفصول غنىً كتابياً لعيش الأعياد والطقوس والليتورجيا، خاصة بعد أن تحوّل الشعب من شعب رُحَّل إلى شعب حضاري سكن في المدن وأصبح له هيكل، وأصبح للهيكل مركزية يُستَغنى من خلال هذا الهيكل عن كل الهياكل والمجامع الأخرى.
قضية الأعياد في سفر الخروج:
كان هناك أعياد يعيِّدها الشعب اليهودي وهي في أغلب الأحيان أعياد زراعية، لذلك أراد الكاتب أن يدخل بعض التاريخ في هذه الأعياد حتى تصبح أكثر تجذراً في حياة الشعب.
عيد الفصح: خروج 12/1-14
هو عيد أُعيدت قراءته على ضوء تدّخُل الله في شعبه في ليلة الخروج. وهذا العيد هو من أعياد الرعاة: الأعياد الرعوية. أما قصة الدم الذي كان يُرَّش على الأعتاب فهي عادة قديمة جداً تعني أمراً واحداً هو أنه ومع عيش الإنسان في الصحراء يجب أن يَدهَن الخيام بالدم لكي يُبعد عنها الأرواح الشريرة. فالكاتب حوّل هذا العيد من عيد رعائي إلى لقاء مع الرب. فالله يستفيد من أوقاتنا الزمنية حتى يتدخل ويحوِّل هذا العيد إلى لقاء بينه وبيننا.
عيد الفطير: خروج 12/15-30
هو عيد زراعي يُحتفل به في بداية الحصاد، فقد كان الشعب يأخذون القمح الجديد ويصنعون منه خبزاً جديداً ويقدمونه بدلاً من القديم خوفاً على الجديد من أن يُنزع. أصبح هذا العيد فيما بعد في المجامع وفي الهيكل هو عيد لتذكُر هروب إسرائيل من مصر.
عيد تقديس البكر: خروج 13/1-2
أصبح عيداً يتذكر فيه الشعب كيف أنَّ الله أخرجه ولم يسمح بأن يموت أبكاره بل أبكار المصريين. والجميل بهذا النص هو قول الرب: تذَكر وما عليك سوى أن تذكر أولادك. فالعيد هو تذكُر خلاص الله لشعبه. فرحمة الله كبيرة بتجنب أبناء إبراهيم من الموت.
خلاصة:
شخص موسى يجمع بين عدة تقاليد. فالقاسم المشترك لكل التقاليد الشفهية هو موسى، والقاسم المشترك من الناحية التاريخية ومن الناحية الكتابية هو الهم الليتورجي والطقسي الذي سنعيشه من خلال قراءة النص.
التشرُّد في الصحراء:
من الصعب تحديد الطريق التي سلكها الإسرائيليون عند خروجهم من مصر. والكتاب المقدس يعطينا على الأقل ثلاث طرق، ولكن ما هو الأكيد هو أنَّ اليهود ذهبوا من دلتا النيل من المنطقة القريبة من عاصمة رعمسيس الثاني ووصلوا إلى قادش حيث هناك نبع ماء بين هذين الموقعين.
يمكننا أن نعتبر أنَّ الإنطلاق من مصر كان إما خروج هروب أو خروج طرد أما الخروج الثالث فهو اغتنام شعب إسرائيل لهجومات الفلسطينيين حتى يهرب ( تثنية الإشتراع 2/23). فالطرق عديدة لكن لا يوجد أي دقة جغرافية، ولا يوجد هدف تاريخي.
إذاً، الهدف هو هدف روحي. والهدف الروحي هو أنَّ الشعب تخلَّصَ من العبودية بواسطة الله.
الإقامة في سيناء:
حسب الكتاب المقدس أقام شعب إسرائيل أربعين سنة في الصحراء، وقد تميَّزت هذه الفترة باشمئزاز الشعب الدائم ضد موسى وهارون. والسؤال المطروح هو أننا لا نعرف بالتأكيد الفترة التي قضاها الشعب في الصحراء، فلاهوتياً الصحراء هي المكان الذي يعيش فيه الشخص بحالة تأهب دائمة، في حالة مسير دائمة، لا يوجد في الصحراء مكاناً للراحة والرقود، فالصحراء واسعة وكبيرة تفتح أمام الشعب الطرقات. ولأجل ذلك يجب أن يعود الشعب ويعيش حالته الدينية، فالصحراء هي نقطة الصفر، نقطة الإنطلاق من جديد، ولأجل ذلك كان الشعب عندما يخطأ كان يأتي النبي وينبهه بقوله له أن يتذكر التجربة وكيف قضى أربعين سنة في الصحراء في قلق دائم.
الصحراء بالنسبة للمسيحي هي حالة أكثر من أنها وجود جغرافي، هي حالة من العودة إلى الذات، إلى البدايات. ففي الصحراء يخاطب الله قلبنا (هوشع 2/16).
الصحراء مهمة لشعب إسرائيل حتى يستطيع روحنة العلاقة مع الله، والله لم ينجح مع شعبه، بمعنى أنَّ الشعب لم يكن أميناً لله (الشعب كان يتذمر ضد موسى وهارون).
إنَّ النصوص في هذه الفصول متعددة المصادر، فهي مجموعة قوانين ذات تقاليد مختلفة، منها تقاليد تعود إلى زمن الآباء، ومنها قوانين تعود إلى الحضارات المختلفة أو إلى زمن السبي إلى بابل.
هناك صعوبة كبيرة في تحديد مكان إقامة إسرائيل في سيناء، لأن هناك عدة جبال يتحدث عنها الكتاب المقدس: حوريب، سيناء. إذاً، هناك تقاليد كثيرة، لكنَّ المهم هو أنَّ إسرائيل أخذ في سيناء الشريعة، وعالم الشرائع هو عالم آخر (خروج 20) يربط شريعة حفظ السبت باستراحة الرب يوم السبت.
حسب تثنية الإشتراع 5 يربطها بالتحرير من مصر.
إذاً، هناك تاريخ طويل حتى وصلت هذه الشرائع إلينا على ما هي الآن. وطبعاً هناك شرائع الشعوب المجاورة (خروج 21/28-32).
{شريعة حمورابي: إذا نطح ثور هائج رجلاً وقتله فإنَّ صاحب الثور بريئ، أما إذا نطح ثور رجلاً لمرات متتالية ولم يقطع له صاحبه قرونه وقتل ذلك الرجل فإنه أي صاحب الثور يدفع نصف مثقال من الفضة}
المهم هو أنَّ الشريعة الموسوية وضعت أسس واحدة لشعب الله، الشعب أصبح واحداً لأنَّ له شريعة واحدة. من هنا يجب على كل إسرائيلي أن يعترف بهذه الشريعة، وكل من لا يعترف بهذه الشريعة فهو ليس بإسرائيلي، بيهودي. هذه الشريعة ستحوِّل خليط الشعب الخارج من مصر إلى شعب موَحَّد بقيادة رجل واحد هو موسى، يصبح هذا الشعب منظماً قادراً على مجابهة مخاطر الصحراء.
نستطيع القول: إنَّ موسى أعطى الشعب الوجدان الوطني، فموسى أوجد عند الشعب الإحساس بأهمية أن يكون عنده وطن، له أرض يستقر فيها، وذلك من خلال إعطاء هذا الشعب الشريعة التي تنظم المجتمع المدني والطقوس الليتورجية التي تنظم المجتمع وتقوِّي الإنتماء الديني.
إحتلال منطقة عبر الأردن: عدد 20/14 ، تثنية الإشتراع 34
عند الخروج من مصر كان الطريق الأسهل هو الدخول مباشرة عبر البحر الميت ونهر الأردن ولكن في أدوم حدثت عدة مشاكل منها: أنَّ ملك أدوم كان قد منع الشعب أن يسير في الحقول ويأكل من أراضي مملكته لذلك كان من الضروري المرور والمجيء إلى منطقة عبر الأردن، وكان لا بدّ للمرور في هذه الطريق بسبب عدة معارك حدثت في هذه المنطقة.
إذاً، طريق الأرض الموعود بها مقفلة بوجه إسرائيل وذلك بسبب رفض ملك أدوم وكان للشعب أن يتلافى المعركة مع الأدوميين ويتجهوا جنوب منطقة عبر الاردن وهذا الأمر كان يتطلب جهداً خاصاً وحروباً خاصة مع سيخون الأموري وملك باشان وكان هناك حروب مع مدين.
وبعد ذلك يصل الإسرائيليون إلى عبر الأردن ويتقاسم منطقة عبر الأردن قبيلتان:
أما موسى فهو سيرى أرض الميعاد من جبل نابو (تثنية 34/1-5) لكنه سيموت قبل الدخول إليها، وسيكلِّف قبل موته بقيادة الشعب يشوع بن نون ليصل بالشعب إلى أرض الميعاد، وسيعيِّن بتكليف من الرب ألعازر بن هارون كاهناً لمساعدة يشوع.
بكل الحوادث التي تمت في الكتاب المقدس، نجد أنَّ عمل الله وعمل الإنسان يسيران مع بعضهما، فالعمل متكامل ما بين الله وبين الإنسان.
نستطيع القول كخلاصة أنَّ هناك صعوبة كبيرة في إعادة تركيب الأحداث التاريخية بشكل صحيح وذلك لأنَّ النصوص التاريخية كُتبت في وقت متأخر كما رأينا سابقاً في عهد الملوك: (سليمان، داود). إذاً، كل هذه النصوص كُتبت لكي تُفسِّر وجود القبائل في منطقة دون أخرى.
خلاصة:
إنه لمن الصعب أن نكتب تاريخ متماسك ومنطقي للأحداث التي جرت قبل الإقامة في كنعان. حتى إذا أردنا أن نكتب تاريخ متماسك، فهذا الأمر يشكل ضرر كبير على غنى التقاليد المختلفة الموجودة في الكتاب المقدس.
بمساعدة بعض المراجع غير البيبلية (مسلَّة مرنفتاح، الكتابات الهيروغليفية، بعض الآثار والإكتشافات الأثرية في عدة مناطق). نستطيع أن نتأكد من بعض الأحداث التاريخية ونربط هذه الأحداث ببعض الأمكنة الجغرافية. ولكن ليس المهم معرفة الأمور التاريخية، فالكتاب المقدس ليس بالأمور التاريخية والجغرافية، ولكن المهم أن نعرف أنَّ هذه النصوص هي نصوص لاهوتية، ليتورجية، هي نصوص كُتبت للخدمات وللطقوس الدينية، فالجماعة التي تكتب تُجَمِّل الأمور في سبيل التبشير الكرازي لكي يبقى الإيمان بهذا الإله القدير إيماناً حياً. فلذلك نعيد قراءة الأحداث السابقة في محاولة لتأوين الخلاص.
قبل الإقامة في كنعان، عرف الشعب الإسرائيلي الله الخالق والقدير والمخلِّص. عَمِلَ معه عهداً وتحوَّل الشعب من شعوب مختلطة إلى شعب واحد موحَّد دينياً وإجتماعياً من خلال الطقوس والشرائع، وهذا ما أعطاه موسى للشعب (تنظيم الجماعة في طقوس ما وفي شرائع متعددة).
إنَّ الأحداث التي سندرسها نراها بعدة أسفار: يشوع - سفر القضاة - صموئيل الأول والثاني - ملوك الأول والثاني.
إنَّ الفصول الإثني عشر الأولى من سفر يشوع تخبرنا عن دخول الإسرائيليين إلى أرض كنعان، ويشوع مع ألعازر الكاهن هو الذي سيقرر الطريق الواجب سلوكه إلى أرض كنعان. وعند قراءتنا لسفر يشوع نلاحظ أنَّ هنالك ثلاث فتوحات:
- الفتح الأول هو وسط فلسطين.
- الفتح الثاني هو في الجنوب.
- الفتح الثالث هو في الشمال.
وسنركز دراستنا على فتح وسط فلسطين، فالكاتب البيبلي يتوقف مطوَّلاً على هذه القضية، وأكثر الفصول التي تتحدث عن هذا الأمر هي متصلة بأرض بنيامين وهيكل الجلجال. والسبب بهذا التركيز يعود إلى أنَّ النصوص كُتبت في بداية الملوك، وكان أول الملوك هو شاول البنياميني، ونعتقد أنَّ معبد الجلجال لعب دوراً مهماً في تاريخ الشعوب القادمة من مصر، مع أنه لا يوجد عندنا أي أثر أو اكتشاف للجلجال.
وقد تطهر الإسرائيليون من أدناس مصر قبل الدخول إلى إسرائيل وذلك بالختن، وهذا هو الإحتفال بالفصح الأول وذلك بمعبد الجلجال. وقد وضعت في هذا الهيكل إثنا عشر حجراً تذكارياً. والأنبياء سيرفضون هذا الهيكل بالقرون القادمة ولن يركزوا إلا على هيكل أورشليم.
بالجلجال سيتذكر الشعب خروجهم من مصر في البحر والذي يشابهه كثيراً مرورهم بنهر الأردن. ومن الصعب جداً أن نعمل نقاربة تاريخية للأحداث لأنها نصوص ضخمة من الناحية الليتورجية التي تُعاش في الهيكل (يشوع 3/14-17).
يشوع 4/7: فتكون هذه الحجارة ذِكراً لبني إسرائيل إلى الأبد. الحجارة الإثنا عشر في الجلجال.
يشوع 4/9 ، يشوع 6/25 ، يشوع 8/29 … "إلى هذا اليوم"
وكلمة إلى هذا اليوم، يريد الكاتب أن يشرحها بإرجاع الأمر إلى أحداث تاريخية قديمة، فالهدف من الكتابة ليس لكي نعرف كيف أُدخِلَ الشعب بل لنعرف كيف يعيش الكاتب والشعب هذه الأحداث في هذا اليوم.
سقوط أريحا: يشوع
إنَّ المقصود بكلمات أبواق، أواني… الواردة في هذا النص هو الطقس الليتورجي الموجود أيام الكاتب هو نفسه الذي كانوا يعيشونه في ذلك الوقت، أعطاه الكاتب محتوى تاريخي ووصف فيه سقوط أريحا. نحن نعلم أنَّ أريحا سقطت أقلَّه 200-300 سنة قبل وصول الشعب الإسرائيلي إليها. ولكن في سبيل أن نتكلم عن العلاقة المتينة بين عمل الله وعمل الإنسان، وأنَّ دخول الشعب إلى أرض الميعاد هو أمر يريده ويحققه الله. ولأجل ذلك نصوِّر الأمر وكأنه تدخل مباشر من الله.
إذاً، من الناحية الليتورجية، قصة أريحا مرتبطة بقصة الخلق الذي تمَّ بسبعة أيام. فعندما نريد أن ندخل إلى أرض الميعاد لا بدَّ من ولادة جديدة، من خلق جديد، ولأجل ذلك نرى أنه في الصحراء مات جيل بكامله على أيام موسى وهذا يعني أنَّ هناك جيل جديد سيُخلَق وسيمر في نهر الأردن وسيعتمد في هذا النهر قبل الوصول إلى أرض الميعاد.
ملاحظة:
كذلك الأمر بالنسبة لمدينة العي التي اندثرت سنة 2500 قبل الميلاد. ونلاحظ أنه بين سفر يشوع وسفر القضاة هناك تناقض كبير، فهناك نظريتين:
- نظرية يشوع التي تعتمد قوة الله على الإنتصار.
- نظرية القضاة تقول أنَّ الإنسان قادر على الإنتصار من خلال الحيلة ولذلك يصفون حروب اليهود بالعصابات والحيل التسللات.
كيف انقسمت الأراضي على الأسباط العائدة من مصر؟
ـ وسط فلسطين: أُعطي لبيت يوسف، بيت يوسف سينقسم فيما بعد إلى ثلاث مجموعات: أفرائيم ومِنسَّى وبنيامين. منسَّى وأفرائيم ليسوا أولاد يعقوب، ولكن أدخلوهم بأسباط إسرائيل لأنهم أولاد يوسف.
ـ في الجنوب: كان هناك يهوذا الذي احتوى سبط بني شمعون (يشوع 19/9)
يشوع 14/3: لا ورث للاوي.
ـ في الشمال: الجليل قُسِّمَ إلى زبولون، إلى أشير، سبط عساكر، سبط نفتالي، أما سبط دان فهناك اتجاهان في نصوص الكتاب المقدس: أحدهما يقول أنَّ دان وُجِدَت قرب أورشليم، والآخر يقول أنَّ دان وُجِدَت في الشمال. ويبقى سبط رأوبين وسبط جاد فقد سكنوا في عبر الأردن.
التجمع في شكيم: يشوع 24
في المرحلة الأولى يخبر يشوع عن مرافقة الله لشعبه.
في المرحلة الثانية يقول لهم يجب أن تتخلوا عن الآلهة الوثنية وتعبدوا الإله الذي حرَّرنا من المصريين.
في المرحلة الثالثة يعلن الشعب إيمانه بالإله، وأعلنوا تجديد العهد ومع هذا العهد كان هناك فريضة أي كان هناك شرائع تساعد لعيش هذا العهد. والشيء الرائع أنه بذات الوقت مع إعلان يشوع تجديد العهد أنه يضع علامة لمقاضاة الناس الذين سيسيرون حسب شريعتهم الموسوية أم لا. فالشاهد هو العلامة التي ستحاكم الشعب على أمانته للعهد، فنلاحظ انه بصلب تجديد العهد أنَّ الحكم ينتظر الشعب.
لأول مرة في تاريخ شعب إسرائيل يتوحد الشعب تحت راية إله واحد (إذاً هناك وحدة دينية وليس وحدة سياسية). هناك توحيد طقسي ديني لبعض الشرائع. كل سبط يحافظ على إستقلاليته فيما يخص الأمور السياسية، ولا نفهم بهذا التوحيد مركزية دينية التي ستأتي مع الهيكل، إنما هذا التوحيد هو توحيد ديني إلهي. بقي في إسرائيل معابد عديدة للطقوس وفكرة إسرائيل الواحد لم يتحقق إلا بسليمان وبنائه لهيكل أورشليم، إنما تبقى وحدة إسرائيل بصفتها الدينية، كل الإسرائيليون يعترفون بإله واحد. الذين اجتمعوا في شكيم ليسوا كلهم إسرائيليون إنما الكاتب جمع كل الشعب بشعب إسرائيل. لن تتوحد إسرائيل من شمالها إلى جنوبها حتى في عهد الملوك والقضاة.
القضاة: سفر القضاة، 1صموئيل 7
إقامة إسرائيل في كنعان لا تعني أنَّ إسرائيل أصبحت موَّحدة. بالعكس يقول سفر القضاة 17/6: كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه. ستمتد فترة القضاة على 170 سنة تقريباً، فهي تبدأ سنة 1200 قبل الميلاد وتنتهي عند مجيء الملك شاول سنة 1030 قبل الميلاد. قبل الدخول في قراءة سفر القضاة يجب تمييز أطر التاريخ من الأطر اللاهوتية. بأغلب الأوقات يهدف الكاتب من خلال ما يكتب شرح أو سرد عمل ما وعمل واحد عن بطولية قام بها فرد سمي بالقاضي. وهناك نوعان من القضاة:
القضاة الصغار ـ القضاة الكبار
كان القاضي الصغير يهتم بأمور داخلية: إدارة سبط أو قبيلة.
بينما القضاة الكبار يقومون بحروب تحرير باسم الوحي أو بأمرة الله. ما نستطيع قوله أن القبائل بهذه الفترة فترة القضاة كانت بمشاكل داخلية مستمرة في ما بينها وهذا ما سيؤدي إلى إضعاف شعب إسرائيل بشكل كبير، وخاصة عند التهديدات الخارجية. وهذا الأمر سوف يُعد الطريق أمام الملوكية. إضعاف قبائل إسرائيل أمام التهديدات الخارجية سوف يُبين هشاشة النظام القضائي.
ليس هناك قضاة من الجنوب، كل القضاة هم من الوسط أو من الشمال وهذا الأمر سيُرينا مدى الصراع القائم بين الشمال والجنوب،إنما الكاتب أدخل شخص اسمه عتنائيل كقاضي وأعطاه الأصل الجنوبي حتى يقول إن النظام القضائي كان شاملاً. لكن وجود عتنائيل كان قبل فترة القضاة.
تزوج يعقوب من ليّا فأنجب: رأوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، عساكر، زبولون.
تزوج يعقوب من راحيل فأنجب: بنيامين ويوسف.
تزوج يعقوب من زلفا خادمة ليّا فأنجب: جاد وأشير.
تزوج يعقوب من بيلة خادمة راحيل فأنجب: دان ونفتالي.
هؤلاء عشرة أسباط لإسرائيل، أُضيف عليهم أبناء يوسف أفرائيم ومنسى وهكذا صار عدد الأسباط إثنا عشر سبطاً.
رغم أن هناك إخراجاً للأحداث التاريخية يبقى أن في سفر القضاة صورة لاهوتية على الشكل التالي وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- إسرائيل لا يطيع الله.
- الله يقاصص إسرائيل ويسلمه للأعداء.
- إسرائيل يصرخ نحو الله الذي يسمع أنين شعبه ويرسل له مخلص.
نهاية:
لن ينجح سفر القضاة في إبعاد الخطر عن إسرائيل، لذلك كان لا بدّ من وجود مؤسسة أخرى تحكم شعب الله وهي المؤسسة الملوكية. بقيت مؤسسة القضاة مفيدة وذات نفع عندما كان الصراع يدور أو الخطر يأتي من القبائل المجاورة، إنما الأمور ستتغير عندما يأتي الخطر من الخارج ويصبح كبيراً ومهدِّداً بزوال إسرائيل كخطر الشعب الفلسطيني. من هنا كان لا بدّ من التفكير باستبدال القضاة وإيجاد قائد عسكري يوحِّد جميع قوى القبائل اليهودية ويستطيع بالتالي درء الخطر وحماية البلاد. هنا تبدأ فترة الملوكية التي تمتد من وصول شاول حوالي سنة 1030 إلى انقسام المملكة بعد موت سليمان أي حوالي سنة 931.
الملوكية:
اـ صموئيل وشاول البنياميني:
من هم الفلسطينيون:
صموئيل يمسح شاول ملكاً على إسرائيل:
شاول: هو من بنيامين. أما عن وصوله إلى العرش الملكي فهناك كما نلاحظ عدة تقاليد. ولكن يبقى هناك ميزتين يتميز بهما وصول شاول إلى الحكم:
الميزة الأولى:
هي أهمية دور صموئيل في إعلان شاول ملكاً (1صمو 9-10). وهناك تياران في النظرة الملوكية، فالنظرة الاولى هي مع تأسيس الملوكية. يجب أن يكون عندنا ملك كباقي الشعوب من أجل توحيد شعب إسرائيل هذا الشعب المحتاج للوعي إلى أهمية المصير المشترك لكل الأسباط وهذا الأمر نراه في 1صمو 9-10 ، 16/11. والنظرة الثانية فيما يخص الملوكية في إسرائيل تقول أنَّ الله هو وحده الملك، لا ملك غير الله ونحن الشعب إختارنا الله أن نكون مميزين عن باقي الشعوب. إذاً، يجب أن لا نأتي بنظام سياسي كباقي الشعوب المجاورة وهذا الأمر نراه في 1صمو 8 ، 10/17-28.
في منتصف الفصل العاشر في صموئيل ينقل لنا تيارين أحدهما مع الملك والثاني ضد فكرة الملك، وفي النهاية إنتصرت فكرة التيار الملكي وصار لإسرائيل ملك عليها.
الميزة الثانية:
إختيار شاول تمَّ لأنَّ عند شاول إنتصارات عسكرية. إذاً عنده ما يتحلى به لكي يكون ملكاً خاصة الإنتصار الذي حققه في بابيش ضد العموريين. في الكتاب المقدس هناك ثلاث تقاليد لوصول شاول إلى العرش وكل تقليد يعطي سبب أو أساس معين حتى إذا جُمِعت التقاليد الثلاثة يكون عندنا ملكاً صحيحاً.
التقليد الأول:
نقرأه في قصة الأُتُن (جمع أتان) وتنصيب شاول (1صمو 9-10). شاول يُمسح ملكاً من صموئيل بطريقة سرية، فالله سمح بأن يكون شاول ملكاً.
التقليد الثاني:
نرى فيه أنَّ صموئيل مسح شاول كقائد أكثر منه كملك ولكن نحن نفهم أنَّ القيادة تعبِّر عن الملك.
التقليد الثالث:
معركة بابيش والتنصيب في الجلجال (1صمو 11). بعد هذه المعركة يُنصَّب شاول ملكاً في الجلجال.
في هذه التقاليد نُجمع:
إختيار الله ودور الشعب وقدرة شاول العسكرية: هي ثلاثة أمور شرعية لكي نؤكد على شرعية الملك والملوكية.
ماذا كانت أعمال شاول؟
شاول قام بعدة انتصارات عسكرية في وقت حكمه على العمونيين في بابيش، كذلك على الفلسطينيين في الوسط في منطقة مكماس، وفي هذه المعركة يربح داود وكذلك انتصر على عماليق في منطقة الجنوب. أما الخطر الكبير فقد كان يأتي من الفلسطينيين لأنه ولو حقق انصاراً عليهم في مكماس إلاّ أن خطرهم لن يزول نهائياً بل كانوا يحاولون بصورة مستمرة غزو أراضي قبائل يهوذا وسيفشلون مرات عديدة إلى أن يُحقّقوا انتصارهم في معركة الجلبوع حيث يموت شاول وأولاده الثلاثة وكان هذا سنة 1010ق.م. يبقى لشاول ابن اسمه أشبعال (2صمو2) حيث سيكمل مسيرة والده وكان مدعوماً من قائد اسمه أغبير الذي أعلنه ملكاً ولكن في منطقة عبر الأردن وملكيّته ستدوم فقط سنتين حيث سيُقتل بسبب خلافات على السلطة. باختصار نقول: مع شاول انتقل الشعب من حالة انقسام في أسباط مبعثرة إلى نوع من الوحدة الضعيفة لتلك الأسباط لكي نستطيع مجابهة الأعداء. إذاً انتقلوا من مجموعة أسباط إلى ملوكية سياسية.
داود:
وُلد في بيت لحم سنة 1040 قبل الميلاد، وهناك أيضاً ثلاثة تقاليد لوصول داود إلى الحكم والملوكية:
التقليد الأول:
داود وجلعاد (1صمو 17) وانتصار داود على جلعاد. هذا نص لاهوتي لأنه في مكان آخر يخبرنا الكتاب المقدس أنَّ قاتل جلعاد هو حنون وهذا نص لاهوتي يريد أن يؤكد أنَّ إنتصار داود هو انتصار من الرب وبالتالي إختيار داود هو اختيار إلهي وبالتالي قدرته على محاربة جلعاد تُظهر أنَّ فيه ما يكفي من القدرات ليصبح ملكاً.
التقليد الثاني:
داود الموسيقار (1صمو 16/14-23) هذا النص يرينا أنَّ الملك إنسان مريض يحتاج إلى شخص يعالجه ويسنده وهذا الشخص هو داود. فكتَّاب هذا النص هم مع داود وضد شاول الغير قادر على ضبط الأمور. كل ما هو أكيد من خلال هذه القضية هو أنَّ هناك تقارب بين داود والعائلة المالكة وخصوصاً مع إبن الملك يوناتان، ويذكر الكتاب المقدس أنَّ داود تزوَّج من إبنة شاول ميكال.
التقليد الثالث:
صموئيل يمسح داود ملكاً (1صمو 16/1-13) يريد هذا النص أن يؤكد أنَّ داود إختاره الله وليس الأمر كما حدث مع شاول في بابيش حيث اختار الشعب شاول وأجبر به الرب، وهنا الله هو الذي يختار داود. وداود في وقت معيَّن سيؤلهه الناس " هو ملاك الله " كما يقول أحد النصوص. هذا الأمر سيولِّد غيرة عند شاول، فصعود شعبية داود ستجعل غضب شاول يتأجج، وهذا الأمر سيؤدي بداود إلى الهرب من وجه شاول، فيتحوّل داود إلى رئيس عصابة له أتباع وينتقلون من بلدة إلى أخرى يساعدون الضعيف إلى أن يصل به الأمر إلى أن يعرض خدماته على الفلسطينيين. والفلسطينيون سيسَخِرون داود للعمل عندهم، وبعد سنتين من العمل عند الفلسطينيين (1صمو 29/3) يُبعِد الفلسطينيون داود خاصة في حربهم ضد شاول المعركة التي سيموت فيها شاول، وفي هذه المعركة تصبح الطريق معبَّدة أمام داود للوصول إلى الملوكية. إذاً كما قلنا أشبعال سيُعلَن ملكاً في عبر الأردن من القائد أغبير. وداود سيُعلَن ملكاً في حبرون، فحكم يهوذا سبع سنوات، ولكن بعد موت أشبعال سيأتي الإسرائيليون إلى داود ويعلنونه ملكاً على إسرائيل، فحكم يهوذا وإسرائيل معاً ثلاث وثلاثين سنة، مما يأتي سني ملكه أربعين سنة. وأربعين تعني ملء ملكوت داود وتعني أيضاً بركة من الله أي أنَّ الله كان يبارك داود في ملكه.
وبالحقيقة عندما مَلَكَ داود على إسرائيل ويهوذا قَوِيَت مكانته وانتشر ملكه ونظم جيشاً قوياً وتميَّز حكمه من الناحية السياسية بعلاقات ناجحة على المستوى الخارجي وذلك من خلال زواجات متعددة وعلاقات ديبلوماسية. ولكن يبقى أكبر عمل عسكري قام به داود ويُعتبر أساساً للتاريخ الآتي بعد داود هو أنه استطاع إسترجاع أورشليم من اليبوسيين ويعلنها عاصمة لمملكته ويبني سوراً يحيط بها وهذا السور سيكمله من بعده سليمان.
ومن الناحية الدينية:
ـ يأتي بتابوت العهد إلى أورشليم وتصبح هذه المدينة المركز الرئيسي عند الإسرائيليين.
ـ سترتبط صورة الله بشخص الملك حتى أنَّ الملك كان له تسمية قائم مقام لله، يملك مكان الله. حتى إنَّ شخص داود يرمز إلى الوحدة الدينية.
وداود في أوج مُلكه سيحاول توسيع حدود مملكته وسيشن حروباً صغيرة على الشعوب التي حوله ويفرض الضرائب على الأعداء، فانتصر على الكنعانيين وعلى الفلسطينيين وعلى المؤابين وعلى الأراميين وعلى العمونيين وعلى نبي عماليق وعلى الأدوميين. وهناك أمر مهم ساعد داود على تحقيق إنتصاراته وهو ضعف القوى العظمى في المنطقة، فالفراعنة خفَّ وهجهم وبني أشور ضعفوا مما ساعد داود على توسيع حدوده.
من جهة أخرى إنفتاح داود على الشعوب التي يستطيع أن يستفيد منها إقتصادياً، فعمل عهداً مع حيرام ملك صور وكان له علاقات تجارية حسنة مع الفينيقيين والمصريين (2صمو 5/11 ، 1ملوك 5/15).
من جرّاء هذه الإنتصارات التي كان يحققها داود فقد كان هناك نتائج دينية من السياسة المتبعة، فانفتاح الشعوب على بعضها والتي كانت ترتبط بمعاهدات مع داود أي أنها تتمتع بنفس البركات التي يؤمنها الله لشعب داود، فالدين إختلط مع التجارة. فمن المعلوم أنَّ سهولة التجارة ونجاحها يؤدي إلى اختلاط الشعوب دينياً وثقافياً مما سيجعل أورشليم بعد موته مدينة مهمة لتجمع الشعوب. وسنلاحظ أنَّ طقوس إسرائيل ستتأثر بالطقوس الوثنية.
إذاً، نجح داود في السياسة الخارجية ولكن يبقى السؤال:
ما هي سياسته الداخلية وما هي نتائجها؟
السياسة الداخلية لداود:
نعالج هذا الأمر من خلال ثلاث نقاط أساسية هي:
- بناء الهيكل.
- الخلافة.
- التعايش ما بين الشمال والجنوب.
1ـ بناء الهيكل:
سيبني داود بيت كبير له (بيت داود) ويقرِّر أن يبني بقربه هيكلاً لله. سيرفض النبي ناتان هذه الفكرة ويقوم ضد الملك، وهذا السؤال سيقسم إسرائيل على مدى تاريخها حتى إنَّ هذا السؤال مطروح في أعمال الرسل 7/48 " حتى إنَّ العلي لا يسكن في بيوت صنعتها الأيدي ".
هناك الأوساط النبوية ترفض فكرة حبس الله في مكان مغلق وأن يصبح الله خاضعاً لمزاجية الإنسان، الله الذي رافق الشعب في مسيرة الخلاص من العبودية، الله الذي خلَّص شعبه من كل ما تعرَّض له من مخاطر، هذا الله المتحرِّك لا يمكن أن يتحوّل عند بناء هيكل له إلى إله ثابت في مكان ما غير متحرِّك.
ليس لداود أن يبني مسكناً لله بل هو الله الذي سيبني لداود مسكناً أي سلالة وسيسكن في هذه السلالة وستُحَقَّق هذه القضية مع يسوع المسيح.
2ـ الخلافة:
3ـ التعايش:
(لا نستطيع شرح خلافة داود إلا إذا فهمنا سرّ التعايش ما بين الشمال والجنوب والعكس). داود سيحل مسألة خلافة شاول بسرعة، فيُسلِم المتعاركون على الملوكية من بني شاول إلى بني جبعون (2صمو 21).
ما هو مصير سلالة داود؟
أبشالوم:
هو إبن داود الثالث. يقتل أخاه الأكبر أمنون ويستغل غضب أهل الشمال ويُعلن نفسه ملكاً في حبرون منتقماً بذلك من الدولة المركزية في أورشليم، ولا يكتفي بذلك، بل سيستعد للإنقضاض على أبيه، ولكن بمعرفة بعض الأشخاص، سيكشف داود أمره ومشروعه، وسيقتل أبشالوم. ورجال بنيامين سيحاولون النيل من داود لكنهم سيفشلون.
أدونيّا:
هو الإبن الرابع لداود، وُلِدَ في حبرون من امرأة إسمها حجيت. يُعلن نفسه ملكاً ولكنَّ سليمان المدعوم من أمه بتشباع إمرأة أوريّا والمدعوم من النبي ناتان سيأخذ بركة أبيه ويصبح أول ملك يخلف أباه في مُلك إسرائيل.
خلاصة:
بغض النظر عن مشاكل الخلافة، فإنَّ مُلك داود يتميز بنجاح كبير على الصعيد العسكري والسياسي والإقتصادي. هذا الأمر سيؤدي إلى تأليه صورة داود. وعندما سيفشل سليمان في آخر عهده، سيتذكر الشعب كيف أنَّ داود كان يعتبر أنَّ كل ما أتاه هو من الله، ولكنَّ الوحدة التي تربط الشمال بالجنوب هي وحدة ضعيفة ومعرضة بأيِّ لحظة للهزات وللزوال. فمن أجل ذلك سنلاحظ أنَّ أول عمل سيقوم به سليمان هو العمل على تقوية هذه الوحدة.
ملاحظة:
في عهد داود بدأت كتابة بعض التقاليد الكتابية العائدة خاصة لإبراهيم.
سليمان:
1ملوك 1/11: لا نرى في هذه الفصول أو النصوص أي خبر عن الحروب كما هو الحال مع الملوك الذين سبقوا سليمان، فنلاحظ بأنَّ عهده هو عهد ازدهار وسلام ونمو.
1ملوك 3/4-15: نلاحظ أنَّ أربعة كلمات تُميِّز حكم سليمان دون الأخذ بفترة إنتهاء حكمه وهي:
ـ الحكمة ـ الفهم ـ الغنى ـ المجد.
إنقسم حكمه إلى قسمين: قمة حكمه، الإنحدار.
بعد موت داود وصل سليمان إلى العرش وتسلط على إمبراطورية كبيرة (دولة كبيرة) تتصل حدودها بمصر وببلاد ما بين النهرين وبالجزيرة العربية.
إذاً، الوضع الداخلي هو وضع جيد، لا يوجد فيه الكثير من المشاكل وسليمان سيركز إهتمامه على السياسة الخارجية، فنلاحظ أنه أقام علاقات خارجية مع كل الشعوب المحيطة بمملكته.
مع المصريين: نجد أنه تزوّج إحدى بنات فرعون.
مع الفينيقيين: جدّد معاهدة أبيه مع الملك حيرام وكان هناك تبادل تجاري مهم مع الفينيقيين وخصوصاً بالخشب.
مع الجزيرة العربية ومملكة سبأ كان له علاقات تجارية.
فسليمان فرض نفسه كقوة محاورة للشعوب المحيطة به وكان أن عدّ كل ذلك بأنه حكمة من الله.
حكمة سليمان:
إنَّ لحكمة سليمان عدة وجوه:
الوجه الأول:
نراه في فن الحكم والسلطة: 1ملوك 5/1-8. 1ملوك 10/4-5.
الوجه الثاني:
هو الحكم في أمور دقيقة وصعبة: 1ملوك 3/16-28.
الوجه الثالث:
نراه في فن التكلّم والخطابة: 1ملوك 5/9-14. 1ملوك 10/1-3.
إذاً، سليمان سينطلق من حكمته التي أعطاها إياها الله إلى تنظيم مملكته الواسعة.
على الصعيد التنظيمي:
قسّم سليمان المملكة إلى إثني عشر إقليماً ووضع على رأس كل إقليم قائم مقام الملك، هو مفوَّض من الملك، وكان يترك له الحرية نوعاً في إدارة الأمور في هذا الإقليم بشرط أن لا يكون هناك أي خطر على الحكم المركزي، ولكن يبقى على كل إقليم أن يؤمِن معيشة شهر كامل للبلاط الملكي. وقد استطاع أن يجمع حوله مجلس إستشاري يضم كبار الموظفين: هو نوع من حكومة ملكية فيها الكاهن وقائد الجيش وفيها أمين سرّ البلاط وفيها سيّد القصر.
على الصعيد التجاري:
فَرَضَ سليمان الضرائب على الأقاليم الإثني عشر ونظم الضرائب تنظيماً جيداً وقام بعلاقات تجارية عديدة مع الشعوب المجاورة:
فمع شعوب الجزيرة العربية أقام معاهدة تجارة البخور والعطور والحجارة الكريمة: (1ملوك 10/1-3).
ومع الشعوب القاطنة في تركيا كان هناك تجارة الخيول: (1ملوك 10/26-29).
ومع المصريين كان هناك تجارة آلات الحرب التي كان يأخذها من المصريين ويبيعها لبلاد ما بين النهرين.
ومع الفينيقيين أقام علاقات تجارية (تجارة الخشب) وخاصة الخبرة التقنية: (1ملوك 5/24).
ومع بلاد الصومال(التي كانت تسمّى بلاد أوفير) كان له علاقات تجارية من خلال إستيراده الذهب والحيوانات: (1ملوك 9/26-28).
ما يتميز به حكم سليمان هو السياسة العمرانية، وأول شيء بناه سليمان هو هيكل أورشليم ويُعَد أهم إنجاز لشعب إسرائيل. وبنى القصر الملكي بالقرب من الهيكل، وبنى سور المدينة (1ملوك 9/15).
الهيكل:
هو تحفة البناء وأهم عمل قام به سليمان. فقد اختفت المقاومة النبوية وأصبح بناء الهيكل مطلباً شعبياً وذلك لتمجيد الملك الذي يعرف كيف يبني هيكلاً ليجمع فيه الشعب ويوحده فيصبه لهذا الشعب تاريخ وهذا التاريخ سيوحِّد كل التقاليد من الناحية الإجتماعية، أما من الناحية الدينية، فمع الهيكل سيخف وهج كل المجامع والمعابد الصغيرة الموجودة في المدن الأخرى وستتركز الإحتفالات الدينية كلها في هيكل أورشليم.
هذه السياسة العمرانية التي قام بها سليمان ستولِّد وضع معيشي سييء في الشمال لأنَّ في الشمال توجد كثافة سكانية أكثر من الجنوب وبالتالي كل اليد العاملة ستأتي من الشمال، ولسرعة البناء لتحقيق المشاريع الكبيرة سيطوِّر سليمان وفريق عمله نهج الأشغال الشاقة وبالطبع فالذين سوف يتضررون من هذا النهج هم أهل الشمال.
إذاً، هذا التطور سيشكل أول حجر عثرة في حكم سليمان وانتفاضة أهل الشمال ليست بعيدة وأول المنتفضين هو يربعام إبن ناباط ولكنَّ انتفاضته ستفشل ويضطر للهروب إلى مصر.
إذاً كما لاحظنا فقد كان في الداخل مشاكل وأيضاً في الخارج، فرزون ملك دمشق الواقعة شمال البلاد سيشن حرباً على سليمان وسيستعيد أراضٍ أخذها سليمان (1ملوك 11-23). وفي الجنوب كان هناك حراد الأدومي، فقد استطاع أن يستعيد أراضٍ أخذها سليمان (1ملوك 7/14).
يبقى الفشل الأكبر الذي سيعجل في انهيار مملكة سليمان هو جلب نساء سليمان آلهتهن مما اضطر سليمان لأن يبني المعابد لهذه الآلهة (1ملوك 11/1-10). هذا الأمر سيشكل صدمة كبيرة خاصة لأهل الشمال وسيجعل من أهل الشمال أشخاص متزمتين منغلقين على تقاليدهم الخاصة، حتى في الجنوب أيضاً سنشاهد تشدد ديني لوجود المعابد الوثنية. مع هذا الوضع ومع ضرائب كثيرة غير محمولة سينتهي عهد سليمان.
ماهي باختصار نتائج الملوكية في إسرائيل؟
1) يمكننا القول أنَّه مع الملوكية كان هناك تحوّل جذري في حياة بني إسرائيل من شعوب مشتتة ذات نظام قبائلي إلى حياة إجتماعية داخل دولة منظمة لها قوانينها وشرائعها ومراتبها وموظفيها وعلى رأسها قائد واحد هو الملك.
وللمرة الأولى في التاريخ سيشعر اليهود يهود الشمال ويهود الجنوب أنَّ لهم مصير مشترك على الصعيد الديني والسياسي.
2) لا يعني المصير المشترك أنَّ التباين العميق بين الشمال والجنوب قد أُزيل، هناك تباين على عدة أصعدة: تباين ثقافي وإجتماعي ولغوي.
3) الملك هو الضمانة لهذه الوحدة الضعيفة: يختصر الملك بشخصه كل السلطات، فهو القاضي وقائد الجيش ومُعيِّن الكهنة. إذاُ، يمكننا القول أنَّ الملوكية اليهودية تأثرت بالملوكيات الموجودة في الشرق من فينيقية ومصرية وبلاد ما بين النهرين... فقد كان هناك نزعة لتأليه الملك (1صموئيل 29/9).
4) نرى أنه في إسرائيل الموحدة كان هناك قبول لفكرة السلالة الملكية وسيبقى هذا الأمر حتى خراب أورشليم سنة 587 ق.م. هذا المبدأ قُبِلَ في إسرائيل ولكن بعد الإنقسام سيبقى مقبولاً في الجنوب ومرفوضاً في الشمال.
5) من الناحية الكتابية: كانت بداية كتابة التقاليد عن تاريخ إسرائيل هي في عهد الملوكية، مثلاً قصة إبراهيم جرت في عهد داود وزادت في عهد سليمان. التقليد اليهوي جرى في عهد سليمان.
6) شهدت إسرائيل في العهد الملوكي تطوراً كبيراً من ناحية التنظيم المدني. والإكتشافات الحديثة أثبتت وجود عدة إنجازات في هذه الحقبة على صعيد البناء.
7) يجب أن نميِّز بين حكم سليمان وحكم داود. قصد داود أن يُبرِز دوماً في إنجازاته دور الله، الله هو في وسط شعبه، الله هو الأساس فيما حقّق داود. بينما سليمان ولو أنه بنى الهيكل فالوحدة الدينية مهدَّدة في عهده وذلك بسبب وجود الآلهة الوثنية.
من هنا وخاصة سنلاحظ أنَّ قبائل الشمال سيتعلقون بمعابدهم الصغيرة، سيعودون إلى الطقوس الخاصة بهم، مثل معبد الجلجال، معبد شكيم إلى أن نصل إلى انقسام المملكة حوالي سنة 933.
إنقسام المملكة بين يهوذا وإسرائيل: 1ملوك 12 - 2ملوك.
اـ الإنقسام:
لهذا الأمر أربعة إتجاهات أو أسباب هي:
1) السبب اللاهوتي:
الإنقسام هو عقاب من الله وذلك لسببين:
1ـ عدم أمانة سليمان بإدخاله الآلهة الوثنية إلى الديانة اليهودية من خلال نسائه.
2ـ فكرة أنَّ الله هو الملك.
2) السبب التاريخي:
هو أنَّ الوحدة هي عمل أنجزه داود. إذاً عند موت داود كانت الوحدة ضعيفة، فالوحدة ما تزال فتية.
3) السبب الإجتماعي:
يُخبِر الكتاب المقدس عن الوضع المعيشي السييء لأهل الشمال خاصة الأشغال الشاقة والضرائب المفروضة من يهوذا.
4) سبب يتعلق بالنظرة إلى الملوكية:
هي أنَّ أهل الشمال يختلفون بنظرتهم إلى الملك عن أهل الجنوب. ففي الجنوب كانت فكرة السلالة الملكية مقبولة جداً، أما عند قبائل الشمال فالنظرة مختلفة فهم يريدون أن يوافقوا أو بالأحرى أن يختاروا الملك، فالملوك يجب أن يتميزوا بقدرات معينة وقوتهم هي بركة من الله.
1ملوك 12/20-24: الكتاب يؤكد أنَّ الإنقسام هو قصاص الله، ولكن يجب ألّا ننسى أنَّ هناك أسباب متعددة للخصام. إذاً، وحدة إسرائيل لم تدم إلا 75 سنة.
إبن سليمان رحبعام سيخسر تأييد أهل الشمال وهذا الأمر سيؤدي إلى أن يلتجئ إلى الجنوب وسيملك على الجنوب من منطقة يهوذا ولكنَّ يهوذا ستكون منطقة صغيرة. فبعد موت سليمان سيشن الفرعون سيهانوك الأول هجوماً على المنطقة، ولعدم قدرة رحبعام على مجابهته سيعطيه كنوز الهيكل.
يربعام إستفاد من موت سليمان وعاد من مصر وأعلن نفسه ملكاً في الشمال وأخذ شكيم عاصمة له، وبعد ذلك إنتقل إلى منطقة إسمها ترصة (1ملوك 14/17). وقوّى بعض المناطق خاصة منطقة فنوئيل بعبر الأردن.
ومن أهم الأعمال التي قام بها يربعام كانت على الصعيد الديني وهي أنه قوّى المعابد الصغيرة وبنى معابد أخرى وأسَّس كهنوتاً من غير سبط لاوي، من بيت إيل، وقوّى مركز بيت إيل ودان الذي جعل فيه معبد دان.
أما الأمر الذي سيشكل إنتقاداً كبيراً من الأنبياء فهو إقامة يربعام ثورين أمام المعابد على مثال الهياكل الوثنية، وستظل أورشليم مصدر قلق للفريقين. وقد تميزت هذه الفترة بصراعات كبيرة بين الشمال والجنوب.
ب ـ الملوك الذين تعاقبوا على مملكة الشمال ومملكة الجنوب:
1ـ إسرائيل وسقوط السامرة:
ـ يربعام:مات سنة 911 (حكم ما بين سنة 933-911). خلفه إبنه ناداب ويبقى ناداب ملكاً على إسرائيل لمدة سنتين فقط، ناداب يُقتل على يد باشا بن عساكر الذي مَلَكَ من سنة (909-886)، وبعد موته يخلفه إبنه إيلة (886-885)، يقتله زمري الذي مَلَكَ 7 أيام فقط، فيقتله عمري الذي مَلَكَ من سنة (885-874)، ومن أعماله المهمة أنه أسَّس السامرة.
وخلفه إبنه أحاب من سنة(885-874)، وأحاب تزوّج من إيزابيل الوثنية من بلاد صيدون، هذا الزواج سيقوي علاقات أحاب مع الفينيقيين ويعيد تنظيم الأراضي وينجح في العلاقات التجارية مع ازدهار في الإقتصاد، هذه السياسة ستؤدي إلى غنى الأغنياء وفقر الفقراء، هذا ما سوف يرفضه النبي إيليا ويعارضه بشدة.
ولكي يقوّي أحاب حكمه إرتبط بمعاهدة مع يهوذا بتزويجه ابنته عتليا من إبن ملك يهوذا يوشافاط واسمه يوران. ولكنَّ أحاب سيُقتَل على يد الأراميين في محاصرتهم لبلاد راموط في جلعاد.
بعد موت أحاب سيملك إبنه أحذيا لمدة سنتين (853-852)، والنبي إيليا سيتهم أحذيا بذهابه لاستشارة بعل بدلاً من استشارته الرب إله آبائه وأجداده (2ملوك). بعد موته سيخلفه أخوه يورام (852-841)، ستكون علاقة يورام جيدة مع أهل الجنوب وسيقوي حكمه بتقاربه من يورام اليهودي ومع إبنه الذي اسمه أيضاً أحذيا يقوم ياهو ويقتل أحذيا ملك اليهودية (الجنوب) ويورام ملك إسرائيل (الشمال). سيحكم ياهو بعد أن ينال البركة من النبي أليشاع الذي سيمسح ياهو. سيقتل ياهو سلالة إيزابيل إمرأة أحاب وكل بيت عمري ويقتل كذلك في سبيل الرب كل خدّام بعل.
مَلَكَ ياهو من سنة (841-814). وسيأتي بعده إبنه يوأحاز 814-798 الذي سيموت قتلاً على يد ملك أرام ويخلفه إبنه يوآش (798-783)، بعد يوآش سيأتي إبنه يربعام الثاني (783-743)، وكان من أحد كبار البنائين ومحارب كبير أعاد إلى سلطته منطقة عبر الأردن، كان عصره عصر ازدهار وسلام. بعد موت يربعام الثاني ستبدأ مرحلة جديدة من الإضطرابات ويأتي بعده إبنه زكريا الذي يملك ستة أشهر فقط فهو سيموت قتلاً على يد شالوم وقاتله هو رجل إسمه مناحيم من ترصة الذي يضطر سريعاً لمواجهة تجلت فلآشر الملك الأشوري الذي احتل المملكة الفينيقية ومملكة إسرائيل ولكنه لم يحتل منطقة الجنوب في إسرائيل.
عند موت مناحيم يخلفه إبنه فقحيا الذي يملك لمدة سنتين ويغتاله قاقح إبن رمليا بمؤامرة وهو أحد مساعديه في الجيش وقاقح يجابه حملة جديدة من الملك الأشوري فلآشر الثالث وبهذه الحرب يقرر الملك الأشوري إحتلال يهوذا وإسرائيل وهنا وفي مملكة الشمال يقوم نبي هو النبي هوشع، يرفض ويستنكر هذه الحرب. وأخذ الأشوريون السلطة بالقوة، ويُعتبر وصول الأشوريين هو قصاص من الله لعدم أمانة إسرائيل. والملك الأشوري يهجم على مملكة الشمال ويستفيد من ذلك أهل اليهودية فيوّسعوا مملكتهم وهذا الأمر سوف يستنكره هوشع. فاقح يُقتل على يد هوشع بن إيلة الذي يملك لمدة تسع سنوات(732ـ 724)ويكون آخر ملك في إسرائيل قبل سقوط السامرة (721) على يد الملك الأشوري سرجون الثاني، وهكذا تكون قد انتهت مملكة الشمال
2ـ يهوذا وسقوط أورشليم "مملكة الجنوب":
تتمتع هذه المملكة بسلالة ملكية واحدة وبالتالي باستقرار أكبر مما رأينا في الشمال، وهذه السلالة هي سلالة رحبعام بن سليمان بن داود. رحبعام مات سنة (913) وخلفه إبنه أبيّام لمدة سنتين (913-911)، ويخلفه إبنه آسا الذي مَلَكَ 41سنة (911-870) وبعد موته يخلفه يوشافاط لمدة 25سنة (870-845)، وقد تميّز عهد يوشافاط بتجارة مزدهرة وبعد موته يخلفه إبنه يورام الذي مَلَكَ إلى سنة (841) الذي لم يكن محبوباً من الشعب لأنه تزوّج من عتليا إبنة آحاب من مملكة الشمال. وبعد موته يخلفه إبنه أحذيّا الذي حكم لمدة سنة واحدة فيقتله ياهو الإسرائيلي وهنا تستلم السلطة أمّه عتليا فتبيد وتقتل كل الذين لهم الحق في الخلافة إلا يوآش أحد أحفادها الذي أخفاه الكهنة في الهيكل لمدة ست سنوات حين يُعلن ملكاً أمام الجميع وتُقتل عتليا في قصرها.
يوآش يملك 40سنة ويموت سنة (796)، وليوآش أهمية كبرى، فقد قام بإعادة بناء الهيكل، وكان يسهر على كل مصاريف مملكته. وفي هذه الفترة يقرّر ملك أرام بأن يقوم بحملة على إسرائيل واليهودية، ولكنَّ يوآش يقرّر تحاشياً للحرب بأن يُعطي ملك أرام كل ما جمع من ثروة ومن كنوز الهيكل. ويموت يوآش على يد أحد مساعديه، فيخلفه إبنه أمَصيا (796-781) الذي يقوّي حكمه ويقرر محاربة يوآش الإسرائيلي (في الشمال) ولكنه يفشل، فيدخل يوآش الإسرائيلي إلى الهيكل ويأخذ كنوزه ويموت أمَصيا قتلاً، فيخلفه إبنه عزريا أو عُزّيا (781-740) الذي ينتصر على الفلسطينيين ولكنه لا يفرح كثيراً بهذا الإنتصار لأنَّ البَرَص يصيبه ويموت مريضاً، فيخلفه إبنه يوتام (740-736) الذي يتبّع سياسة أبيه العمرانية.
وفي أيامه يقوم نبي مهم في يهوذا هو أشعيا الأول (فصل 1-39). وأشعيا هو رجل من المدينة ومن الأشخاص المهمين، ذلك لأنه اشترك في أكثر القرارات الملكية وقد عايش أربعة ملوك هم: ـ عزريا ـ يوتام ـ أحاز ـ حزقيّا.
في هذا الوقت قام نبي آخر هو ميخا الذي رفض في نبوءاته حالة عدم المساواة الإجتماعية ورفض الظلم وتنبأ لأورشليم بنفس المصير الذي كان للسامرة.
بعد يوتام يأتي إبنه أحاز (736-716) ويقرر في هذه الفترة رصين ملك أرام وفاقح ملك إسرائيل (الشمال) بشن حربٍ على أحاز، فيوّقع أحاز عهداً مع ملك أشور الذي سيقتل رصين، ولكن في المقابل يضطر أحاز بموجب هذه المعاهدة أن يُدخِل عبادة الآلهة الأشورية إلى اليهودية (وهذه هي نقطة سوداء في تاريخ أحاز). ويخلفه حزقيا من سنة (716-687) الذي قام:
- بعدة نشاطات عمرانية.
- نظم الإدارة الملكية.
- جمع الضرائب.
- أوصل قناة جامون إلى بركة شيلو.
أهم عمل سيقوم به أثناء توليه الحكم هو البدء بتجديد طقسي. لكننا لا نملك أي مرجع مما قام به في تجديده هذا، ولكنه قام بجمع الشعب كله في هيكل أورشليم وأخرج العبادات الوثنية وكهنة الأشوريين.
بعد موته سيخلفه إبنه منّسى الذي سيملك لمدة 55سنة(687-642). لكن في عهده نرى العودة لعبادة الأوثان فيقوم نبي يُعلن عقاب الله هو النبي ناحوم ويقول بأنَّ الدليل على قصاص الله للأعداء هو سقوط ودمار نينوى والتي دمرت سنة 612.
مات منّسى(642) فخلفه إبنه أمون (640) وبعده سيأتي إبنه يوشيا الذي سيحكم لمدة 31سنة (640-609) ويتزامن عهده مع النبي صفنيا الذي يأسف ويرفض عبادة البعل والكواكب، ويوشيا كان حكيماً ورجل صلاة، قام بأعمال كبيرة أهمها هو الإصلاح الديني الذي بدأه جده حزقيا:
- فهدّم كل الهياكل الوثنية.
- طرد كهنة آلهة بعل.
- رفض طقوس الكواكب وبالأخص الطقوس الآتية من أشور.
أغلق كل معابد إسرائيل ليُبقِ على معبد واحد هو هيكل أورشليم مجمع الشعب في عام 622 ليجددوا العهد وكان ذلك في عيد الفصح.
سنة (612) يصل البابليون ويحتلون نينوى الأشورية فيقف الفرعون المصري مع الأشوريين، أما يوشيا فيعترض جيش الفرعون ولكنه يُقتل وكان ذلك سنة (609) في مجيّرو.
بعد موت يوشيا تبدأ مرحلة من الإضطرابات تنتهي بسقوط أورشليم 587 ويخلفه إبنه يوأحاز ولكنَّ الفرعون المصري يخلعه عن عرشه ويعيّن مكانه أخاه الياكيم أو يوياقيم، وفي هذه الفترة يقوم نبي كبير هو النبي إرميا الذي سيشهد عودة الطقوس من جديد (العبادات الوثنية) وهذا أول نبي يدوّن (إرميا 36/1-8).وطلب الكتابة من النبي باروك ويقرأها أمام الشعب وهنا سيفرح الشعب ويحب نبوءة إرميا، ولكنَّ يواقيم ينزعج من هذا الأمر ويأخذ الأوراق ويحرقها وهنا يهرب إرميا وباروك من وجه الملك، وبالرغم من اختباء إرميا ستُنشر نبوءاته بسرعة وسيكون لها صدى كبير عند الشعب. هذه النبوءات ستمتد إلى سقوط أورشليم وستطال هذه النوءات ليس فقط الشعب الإسرائيلي بل مصر وبابل حتى أنها تطال اليهود في المنفى.
يواقيم يملك لمدة 11سنة وفي هذه الفترة أيضاً يقوم نبي آخر هو النبي حبقوق. وفي سنة (605) يقوم نبوخذ نصّر بحصار أورشليم ويموت يواقيم في هذا الحصار ويخلفه إبنه يواكين ويأسره وينصّب مكانه عمه صدقيا وهو آخر الملوك على أورشليم قبل سقوطها ودمارها 578 .
خلاصة:
تُشكل الحقبة التاريخية الممتدة من موت سليمان حتى سقوط أورشليم نقطة تحوّل أساسية في تاريخ إسرائيل وذلك لعدة أسباب:
1) وحدة الشعب ولو كانت هذه الوحدة ضعيفة. فالشعب إنقسم إلى مملكتين مما أضعفه وأصبح عرضة للسقوط السريع أمام الأعداء وهذا الأمر بالنهاية سيؤدي إلى السبي إلى بابل.
2) قبل سقوط السامرة لم تكن أورشليم مهمة كثيراً لأنَّ السامرة حافظت أكثر من أورشليم على أمانتها، فالسامرة قبل سقوطها كانت مركزاً للحياة الدينية الصحيحة وخاصة على أيام ياهو، فقد كانت تعتبر هي الأرثوذكسية وأورشليم المنفصلة وخاصة على أيام عتليا.
3) لن يطول هذا الأمر لأنه في الشمال هناك إنقسامات حادة بسبب الخلافة. فكل سبط يدّعي الحق في الوصول إلى العرش الملكي بعكس الجنوب، وفي جميع الأحوال لن تستعيد أورشليم دورها قبل سقوط السامرة.
4) بقاء أورشليم 135 بعد سقوط السامرة نفهمه بسببين:
- السلام الداخلي بسبب إنعدام التنافس على العرش.
- وجود سياسة خضوعية للقوى الكبرى الخارجية.
5) الوضع السياسي المتردي سينتج عنه وضع معيشي غير محتمل، فطبقة العبيد تصبح طبقة معدومة ومتروكة للمزاجية الملكية، وطبقة غنية.
6) هذه الحالة الإجتماعية تغذّي الرفض عند الناس لسلطة الملك. وولادة النبوية ستكون متزامنة مع ولادة المؤسسة الملوكية. فالعلاقة بين الملك والنبي كانت علاقة صداقة لكنها متشنجة، فللنبي وظيفة في البلاط الملكي في أغلب الأحيان ولكنه بنفس الوقت كان يرفض أي تسلط من الملك أي تعدي على حقوق الناس.
السبي إلى بابل "أهم مرحلة من مراحل تاريخ إسرائيل":
كان سقوط أورشليم شيء مروّع، القلاع تندثر تلو الأخرى، الهيكل يتهدم بعد أن سُرِقَت كل محتوياته، هذا الوضع سيكون موضوع مهم في كتاب مهم هو سفر المراثي الذي سيتكلم عن الوضع المأساوي الذي تعيشه إسرائيل.
إذاً، كل هذه الأمور ستؤدي بالنتيجة إلى هجرة فئة كبيرة من الناس، فئة المثقفين. فالمنطقة ستصبح محافظة للبابليين الذين يكلفون إدارة هذه المقاطعة الجديدة إلى جدليا بن أحيقام ، ويكون مركزه في المصفاة، ولكنه لن يعمّر طويلاً وسيموت اغتيالاً لأنَّ له مواقف تصب في مصلحة البابليين (سيغتاله شعبه). وهذا الأمر سيؤدي إلى هجرة أعداد كبيرة من الإسرائيليين إلى مصر وبابل وأشور. وأخذوا النبي إرميا رغماً عنه (إر 42).
ففي هذه الفترة كانت أورشليم تعيش ماساة كبيرة ولا نملك مراجع عديدة سوى سفر عوبديا الذي يكتب عن وضع أورشليم المؤلِم. وهؤلاء اليهود الذين رحلوا إلى مصر سوف يلتقون باليهود القاطنين في مصر منذ سنوات عديدة، ولكنهم لا يعرفون أي شيء عن الإصلاح الديني الذي قام به يوشيا. يحافظون على الفصح، على السبت، ولكنهم يعبدون نوعاً من الثالوث (الإله يهوى الإله الأب ـ آلهة إمرأة ـ آلهة إبن) وأيضاً كان هناك موجات من التهجير إلى بلاد ما بين النهرين، ولكنَّ اليهود المسبيين كانوا أكثر عدداً.
* موجات التهجير المتتالية كانت:
1) إلى أشور:
كان هناك ثلاث موجات تهجير:
- سنة 732 على أيام الملك تخليت فلآشر الثالث.
- سنة 722 سقوط السامرة على أيام سرجون الثاني.
- على أيام الملك سخريب الذي هجّر البعض من أهل اليهودية إلى بلاد أشور.
2) إلى بابل:
كان هناك ثلاث موجات تهجير:
- سنة 597 على أيام نبوخذ نصّر (2ملوك 24/10-17).
- سنة 587 سقوط أورشليم (2ملوك 2/8-21).
- سنة 582 على أيام الملك البابلي تبورزدان.
إذاً، اليهود وصلوا إلى بابل وسكنوا في مناطق زراعية ورغم أنهم كانوا يتمتعون ببعض الحرية إلا أنهم خسروا أرضهم أرض الميعاد. ففي السبي لم يكن هناك أي أثر للهيكل، فالتقادم والذبائح أصبحا مستحيلين،
وهنا يُطرَح السؤال:
هل هو انتصار الوثنيين على يهوى إله الآباء والأجداد؟
وهنا يتدخل حزقيال وسنلاحظ أنَّ القسم الأكبر من رسالته سيجري في بابل وسيردّ حزقيال بعض الآمال إلى قلوب اليهود المسبيين، ونبوءته هي بصيص من النور في الأيام الحالكة التي يعيشونها. فهو سيتنبأ بأنَّ الهيكل سيُبنى من جديد والشعب سيعود إلى أرضه، ولكن هذه المرة بقيادة داود الجديد.
فرؤية حزقيال ستكون في صلب اليهودية بالمعنى اليهودي أي إعادة قراءة الأحداث الماضية على ضوء السبي.
خلاصة عامة:
1ـ تبقى فترة السبي إلى بابل من أهم حقبات التاريخ الإسرائيلي. يعيش بنو إسرائيل في عمق أكبر كل الطقوس التي كانوا يحيونها بشكل سطحي في أورشليم وسيعودون إلى الصحراء. سيصير هناك عملية روحنة كبيرة لكل العبادات وخاصة لكلام الله والكهنة والأنبياء الذين سيساعدون الشعب على ذلك (حز 36/24).
فبنو إسرائيل يعيشون على أرضهم، تجربة البؤس الديني والفراغ الديني. إذاً أصبحوا خاضعين لآلهة غير يهوى، وبدأ الشعب بالحنين إلى وطنه، فبدأت الترانيم لذلك "ما أحبّ مساكنك يا رب الأكوان..." (حزقيال). هذا الوضع سيجعل من إسرائيل مهيأة أكثر لمعرفة الرب معرفة حقيقية، فهذا الوضع سيساعد إسرائيل لعيش ما نسميه العودة إلى نقطة الصفر. في الصحراء لى نقطة الصفر. في الصحراء إسرائيل هي في حالة إنمحاء كلي أمام الرب، في حالة رجوع إلى الذات.
2ـ وصلت المؤسسة الملكية في إسرائيل إلى فشل ذريع مما أدى إلى السبي إلى بابل. إذاً الشعب سيعيش على مؤسسات ثانية غير الملوكية، وسيلجأ إلى المؤسسة النبوية والمؤسسة الكهنوتية. فهاتان المؤسستان هما اللتان ستساعدان الشعب لكي يعيش في العمق العهد مع الله بطريقة شخصية، بطريقة داخلية، سيساعدونه ليعي دور الشريعة في حياته ولكي يبقى أميناً للرب.
3ـ وجود الأنبياء وعدة مدارس كهنوتية في السبي أظهر تقاليداً مختلفة ومتعددة وقراءات متعددة وتفسيرات جديدة للأحداث السابقة مما سيولِّد الأمل الكبير عند المسبيين "الله يبقى أميناً لشعبه".
- الحكم الفارسي والعودة إلى إسرائيل.
- السيطرة الهيلينستية (الحكم اليوناني) والثورة المكابية.
- الحكم الروماني وانطلاقة الكنيسة.
1ـ الحكم الفارسي والعودة إلى إسرائيل:
بعد موت نبوخذ نصّر سنة 562 ق.م بدأت فترة من الإضطرابات لخلافة نبوخذ نصّر. فقد كان يوجد في منطقة بلاد ما بين النهرين ثلاثة مناطق:
- منطقة عيلام وعاصمتها سوس.
- منطقة الماديين وعاصمتها إيكاباتان.
- منطقة حرّان.
فالمنطقة كانت مهدّدة من القوى الخارجية إلى أن وصل قورش من منطقة عيلام وأعلن نفسه ملكاً على كل الفرس في مناطق إيكاباتان وعلى سوس وقام بتقوية حكمه باحتلال المناطق تلو الأخرى إلى أن وصل إلى ميديا أو الأيونية في تركيا واحتلّ أفغانستان وإيران الشرقية حتى إنَّ مملكته امتدت من سورية حتى مناطق الهندوس.
في هذه الحقبة بين 550-539 نقرأ أشعيا الثاني، (أشعيا 40/55) وأشعيا الثاني يتكلم عن قورش وكأنه المسيح المنتظر، مسيح إسرائيل المسبي، فقورش سيخلّص شعب إسرائيل وسيسمح له بالعودة إلى أرضه.
فقورش كان ملكاً متحرراً نسبياً بعكس أسلافه الأشوريين والبابليين، فهو الملك الوحيد، ولكن بالرغم من ذلك نراه يقسم الإمبراطورية إلى ولايات ويضع على رأس كل ولاية موظف فارسي يعينه بنفسه، وكل ولاية تتمتع بحرية تامة بشرط أن لا تهدّد بتصرفاتها وبحريتها النظام الملكي المركزي. هذا من الناحية الإدارية. ومن الناحية الدينية فقد سمح قورش بإعادة الآلهة الخاصة بكل ولاية وبكل شعب من الشعوب التي ضمها إلى الإمبراطورية. فلكل شعب الحرية بإيمانه وبممارسة طقوسه وشعائره الخاصة. وفي سنة 583 أعلن قورش قراراً يسمح بعودة اليهود إلى بلادهم (عزرا 6/1-5). وهذا القرار ينص على:
- عودة إسرائيل إلى أرضه.
- عودة بناء الهيكل وإرجاع كنوزه.
أصبحت اليهودية تتمتع بحكم من قِبَل موظف فارسي ويحيط به مجلس مؤلّف من 150شيخ قبيلة وهذا ما سيُعرَف فيما بعد باسم المجمع اليهودي. أما اليهود الذين بقوا في إسرائيل بعد السبي ولم يُسبَوا فقد تقوقعوا على ذواتهم وأصبح همهم الوحيد المحافظة على نقاوة شرائعهم والتمسك بحرفية الشريعة؛ أما الذين رحلوا (سُبُوا) إلى بابل فقد انفتحوا إلى ثقافات أخرى، إلى ديانات أخرى غير الديانة اليهودية، إلى تقاليد وطقوس تختلف عن تقاليدهم وطقوسهم مما سمح بإدخال التقاليد الوثنية في التقاليد اليهودية. ومن هنا نُدرِك أنَّ لقاء العائد من بابل مع اليهود الباقين في اليهودية لم يكن لقاءً حاراً وهذا الأمر سيولّد تشنجاً متجدداً حتى على المستوى اللاهوتي.
وأرسل قورش شصبصّر ليحكم اليهودية وكان عنده مهمة وحيدة هي إعادة بناء الهيكل. وبالفعل بدأ ببناء الهيكل ولكنَّ العمل توقف بسرعة واستقال شصبصّر من مهمته لسببين:
- سبب فقر الشعب.
- سبب الإنقسام الحاد الموجود في بنية الشعب اليهودي.
كذلك في هذه الفترة يظهر نبي هو أشعيا الثالث (أشعيا 56-66).
يموت قورش سنة 530 ويخلفه إبنه كمبيز الذي يدوم حكمه من سنة 530-522. كمبيز إنتصر على المصريين سنة 525 ولكننا نفتقر جداً إلى معلومات عن وضع اليهود في هذه الحقبة.
بعد موت كمبيز قامت حرب أهلية دامت سنتين لخلافته، فانتصر داريوس الأول سنة 522-468 وتابع داريوس الأول سياسة قورش حيث أكمِل في عهده بناء الهيكل (عزرا 6/15-18). على الصعيد الديني سيصبح تحوّل كبير في هذه الفترة. فكل الرجاء الإسكاتولوجي (النهيوي) سيوضع في رئيس الكهنة بهيكل أورشليم. وهنا بهذه الحقبة يبرز نبيان هما حجّاي وزكريا.
يموت داريوس الأول ويخلفه إبنه أحشاويروش سنة 486-465 ومُنِيَ بنكسة كبيرة لأنه فشل في احتلال اليونان. ولكن ما يميّز ملكه هو كثرة الحريم في قصره ونقرأ في هذه الفترة سفر أستير وكتاب ملاخي.
فنقرأ في سفر أستير الصعوبة الكبيرة في التوافق بين الخصوصية اليهودية والوسط الوثني. أما ملاخي فينتقد الكهنوت الذي ينقصه إندفاع كبير في الإيمان، وملاخي يُعلن مجيء المسيح الذي يسبقه مرسل وهو ربما إيليا.
أحشاويروش يموت قتلاً سنة 465 ويخلفه أرتحششتا الأول سنة 465-424، ذو شخصية ضعيفة، تأثر بالنساء ورجال البلاط الملكي. كان له عمل أساسي جداً يخص اليهود، فقد أرسل نحميا إلى اليهودية في مهمتين:
- إعادة بناء مدينة أورشليم.
- تنظيم الإدارة المحلية في أورشليم.
نحميا لم يكن كاهناً لكنه إنتقد الكهنة وجابه رفضاً كبيراً وخصوصاً من كهنة أورشليم، ولكنه استطاع تنظيم الأمور في الهيكل، فألغى ورفض كل الزواجات المختلطة مع الوثنيين.
بعد أرتحششتا الأول يأتي داريوس الثاني سنة 424-404 لكننا نفتقر إلى معلومات عن اليهود في اليهودية في هذه الحقبة. ولكن توجد عندنا معلومات عن اليهود في مصر وخاصة عن وضعهم في جزيرة الفيلة وأنَّ هيكلهم في هذه الجزيرة قد هُدِّم.
ويخلفه أرتحششتا الثاني سنة 404-358. عند وصوله إلى الحكم تبدأ المشاكل في عدة مناطق من الإمبراطورية وذلك تحت تأثير يوناني متصاعد الذي بدأ يظهر ويشجع الثورات ضد الحكم، وأرتحششتا الثاني سيرسل إلى اليهودية عزرا الذي يميّزه عن نحميا أنه كان كاهناً وكاتباً، وعزرا سيقوم بقراءة التوراة (الشريعة) وسيعطي لليهود مفهوماً جديداً للشرائع. فبالنسبة له الذبيحة ليست مهمة جداً بل المهم هو عيش الشريعة الإلهية بمفهومها الروحي (نحميا 8). فشرح أي أعاد قراءة الأحداث من بعد السبي وقراءة الأحداث الماضية ليصبح نوعاً من التوحيد للشعب القادم من السبي والشعب الموجود في اليهودية. إذاً في هذه الحقبة نشهد نشاط أدبي مميز:
- كتاب سفر أيوب
- نشيد الأناشيد
- راعوت
- سفر يونان
- الأمثال
- المزامير
بعد أرتحششتا الثاني يأتي أرتحششتا الثالث سنة 358- 337 ويخلفه داريوس الثالث سنة 337-331 وهو آخر ملوك الفرس قبل وصول الإسكندر الكبير اليوناني.
2ـ السيطرة الهلينستية "الحكم اليوناني"
اليونان هم أول الأوروبيين وصولاً إلى آسيا، ووصولهم يشكل منعطفاً مهماً في تاريخ البشرية. سقطت إسرائيل تحت سيطرة الإسكندر، ومراجع الكتاب المقدس لا تعطينا معلومات عن مرور الإسكندر إلى فلسطين. من هنا نعود إلى ما كتبه فلافيوس يوسيفوس (حاكم الجليل سنة 66)، لقد أرّخ الفترة الزمنية في كتابين:
- كتاب الأقدميّات اليهودية.
- كتاب حرب اليهود ضد الرومان.
يبدو من وراء ما كتبه يوسيفوس انَّ الإسكندر قد حصل بسهولة على خضوع اليهود، لذلك ترك لهم الحقوق التي نالوها من الفرس سابقاً.
الفكرة الأساسية عند اليونان هي الإيكوني، فهم يعتبرون أنَّ كل البشر إخوة، ويعيشون في الإمبراطورية اليونانية. فجميع المدن التي يسيطر عليها اليونان كانت تُعتبر مدناً لهم، لهم الحق في العيش فيها، وجميع المواطنين القاطنين فيها هم يونانيون واللغة الرسمية كانت اللغة اليونانية حتى إنها كانت تُفرَض فرضاً.
وكان هناك صراع فلسفي وديني بين اليونان واليهود بسبب إختلاف الأفكار والآراء والمعتقدات والفلسفات والآلهة، فعند اليهود إله واحد هو يهوى، بينما عند اليونان فالآلهة متعدّدة.
وانتهى الصراع بثورة المكابيين التي قادها يهوذا وإخوته فهم رفضوا وجود الآلهة المختلفة في هيكل أورشليم واعتبروا ذلك تدنيساً لقدسية الهيكل.
واللقاء بين اليهود واليونان لقاء غير واضح يدور مباشرة من لقاء حبّ إلى لقاء تشنج بسبب التشنج بين الطرفين.
عند موت الإسكندر سنة 325 تبدأ حرب خلافات تسمّى خلافات الجنرالات بين البطالسة والسلوقيين. البطالسة حكموا مصر، والسلوقيون حكموا بلاد ما بين النهرين وسورية، وكان الهدف الأساسي هو السيطرة على الطرق الإستراتيجية. في بادئ الأمر حكم البطالسة مصر وفلسطين وفينيقية لمدة 100 عام.
بطليموس الأول هجّر اليهود إلى مصر سنة 323-282 وكانت الثقافة في مصر هي ثقافة يونانية، وبهذه الفترة حدث شيء مهم ألا وهو ترجمة الكتاب المقدس وسميّت ترجمته السبعينية. هذه الترجمة تأثرت كثيراً بالفلسفة اليونانية ولأجل ذلك رفض اليهود بشدة هذه الترجمة لأنَّ بعض المفردات في بعض الأسفار جاءت بمعنى يوناني مغاير للمعنى العبري.
وبهذه الفترة نقرأ كتاب سفر طوبيا على عهد بطليموس الأول، وطوبيا كان ضد أي تقارب بين اليونان واليهود. في هذه الحقبة إنطلقت جماعة الحسديم : كلمة عبرية تعني المحبة بالعمل والرحمة.
هم جماعة يتشبثون بالشريعة بشكل دقيق وأمناء للشريعة ويرفضون كل ما ليس بيهودي وكل ما هو غير مطابق للشريعة. نقرأ في هذه الحقبة سفر الجامعة وسفر يشوع بن سيراخ. وبهذا السفر يُنبّه يشوع على خطر الثقافة اليونانية على الإيمان بيهوى.
وبعد هذه الفترة يأتي عدَّة بطالسة حتى بطليموس الخامس الذي هزمه أنتيوخوس الثالث (223-187) يسمح هذا لكل اليهود المنفيين خلال الحروب السابقة بالعودة إلى ديارهم حيث يستطيعون العيش حسب شرائعهم الدينية،وكان عنده صديق اسمه فيلبس الخامس المقدوني وكان الرومان بدأوا بالدخول إلى المنطقة فشنَّ فيلبس الخامس عليهم حملة بمساعدة أنتيوخوس ولكنهم فشلوا مما يضطرُّ أنتيوخوس لجمع الأموال كضريبة حرب فيبدأ بسرفة الهياكل،فقتل وهو يسرق هيكل سوس في عيلام.يخلفه سلوقس الرابع187-175سيتابع سياسة أنتيوخوس ويقرر السيطرة على ثروات الهيكل في أورشليم،وهنا يرفض بشكل قاطع كبير الكهنة عونياس ويجابه ويقاوم سلوقس .
بعد موت سلوقس الرابع خلفه ابنه أنتيوخوس الرابع الذي وصل للحكم بمساعدة الرومان، يقيل عونياس رئيس الكهنة ويضع مكانه أخيه (أخوعونياس) الذي غيَّر اسمه إلى ياسون(اسم يوناني) ويُلغي كل الحقوق التي إكتسبها اليهود في السابق:
- أبطل قرار عدم دفع الضرائب.
- ألغى شريعة إحترام السبت.
- ألغى قراءة الكتب المقدَّسة.
- ألغى شريعة الختان.
- قام بأكبر عمل عدواني ضدَّ اليهود ألا وهو بناء مذبح للآلهة زيوس في هيكل أورشليم(مكابيين6/2) وهذا الأمر يجاوب على منطق المسكونية اليونانية ليكون وحدة دينية عند الشعوب فالآلهة يجب أن تكون متساوية في المراتب.
وهذا الأمر سيدفع اليهود إلى الثورة، وهذا ما نسميه بثورة المكابيين الذين رفضوا وجود الآلهة اليونانية في وسط هيكلهم ويعتبرون وجود الآلهة تدنيساً لمقدساتهم، ومن هنا ستقوم ثورة جماعة الحسديم على يد يهوذا المكابي الذي هَزَمَ مع جماعته جيش أنتيوخوس، ذلك لأنَّ الجيش كان منشغلاً في حروب خارجية، وتمّ تطهير الهيكل في كانون الثاني من سنة 164 ق.م وهذا ما يسمّى بعيد التجديد (سفر دانيال).
ويستلم السلطة الوطنية المدنية يهوذا المكابي، وبعد موته يأتي يوناتان وسمعان أخاه إلى السلطة وهم حكّام مدنيون إجتماعيون أكثر من سياسيين، لأنَّ الدولة لم تُنظَّم بعد. بعد سمعان يأتي يوحنا إركانوس ثم أرسطوبولس الأول فيُعلن نفسه ملكاً سنة 104 ومع أرسطوبولس تبدأ فترة الحشمونيون الذين يحكمون حتى مجيء الرومان، ومع الحشمونيين تنتهي فترة حكم اليونانيين.
نتائج الثورة المكابية:
هناك نتيجتان:
1) لأول مرة بعد المنفى والسبي إلى بابل ثم العودة، تعود الدويلة اليهودية مستقلة عن باقي الدويلات السلوقية. إذاً، هناك نوع من الإستقلال.
2) سياسة المكابيين وخلفائهم قسّمت الشعب اليهودي إلى فرق وشيع.
أـ الفريسيون:
أصل الكلمة الأرامية "فريشو" معناها فَصَلَ أو اعتزل، أي أنهم جماعة ابتعدت عن الخاطئين. أصل هذه الشيعة:
هم من جماعة الحسيديم، لكنَّ انفصالهم عن الخط المكابي كان نتيجة رفضهم لفكرة حصر السلطة بشخص واحد. وكانت جماعة الحسيديم ترفض الدخول في إطار السياسة. يتبع الفريسيون مذهباً دينياً يدعو إلى التشدد والتصلّب في الحفاظ على الشريعة وسُنَّة الأقدمين فيما يخص الطهارة وسُنَّة السبت. كانوا مضطهدين من الحشمونيين سنة 90 وكلما اضطهدهم الحشمونيون كلما ذاع صيتهم وانتشر خبرهم.
ب ـ الأسينيون:
مشكلتهم هي أنهم رفضوا لقب رئيس الكهنة للحشمونيين، وكانوا متعصبين جداً. هجروا منطقة أورشليم في أوائل الثورة المكابية ولم يعودوا إليها إلا بعد تطهير الهيكل.
حافظ الأسينيون على الشريعة وكان لهم سلطة قاسية خاصة عندما سكنوا في قمران، وكان لهم مكتبة كبيرة هي مكتبة قمران.
ج ـ الصدّوقيون:
يعتقد العلماء أنَّ أصلهم هو من صادِق الذي كان على أيام سليمان عظيم الكهنة في أورشليم بعد أن نحّى سليمان الكاهن أبيَطار ووضع مكانه صادِق. هو حزب ديني سياسي وأغلب أعضاؤه من الكهنة ورؤساء الكهنة. هم بدعة. يفتش الصدّوقي عن مصالحه الذاتية لذلك إنضم إليهم عدد كبير من الرومان وكانوا على خلاف ديني عقائدي مع الفريسيين. يرفضون أي قيمة للتقليد الشفهي ولا يؤمنون إلا بما كُتِب. ويرفضون قيامة الأجساد.ويعتقدون بديمومة الروح والثواب والعقاب.
3ـ الحكم الروماني:
وُجِدَ الرومان سنة 190 قبل الميلاد حيث انتصروا على الملك السلوقي أنتيوخوس الثالث. في سفر المكابيين نتكلم عن نصوص، عن معاهدات كانت تتم بين المكابيين والرومان.
مَن هو أول روماني إهتم باليهود؟
بومبيوس:
جاء إلى اليهودية ليحكم بين إخوة أعداء هم: أرسطوبولوس الثاني الصدّوقي وهيركانوس الثاني الفريسي. دخل بومبيوس أورشليم سنة 63 وساعد هيركانوس الفريسي وهنا سُمِيَ هيركانوس عظيم الكهنة وقائد الشعب .
في أدوميّا كان هناك حاكم هو أنتيباتروس، فتحالف هيركانوس مع أنتيباتروس ضد أرسطوبولس، ولكن بقيت الحرب الأهلية قائمة إلى أن وصل هيرودس الكبير ووضع يده على الحكم بمساعدة الرومان وعلى رأسهم أوغسطوس قيصر سنة 37 ق.م.
إذاً، أصبح هيرودس ملكاً على اليهودية ليس بإرادة اليهود ولكن بإرادة الرومان.
هيرودس:
كان بنّاءً كبيراً، فبنى مدن وقلاع كثيرة وهو أدومي، بنى عدة مدن وأهم إنجاز قام به هو بناء الهيكل من سنة 20 ق.م حتى سنة 62 ب.م. رغماً عظمته يبقى الهيكل مرفوضاً في هذه الفترة لأنَّ إعادة بنائه تمت على يد هيرودس الأدومي، وعلى أحد أبواب الهيكل وضع تمثال نسر مذّهب وهنا أراد الفريسيين إحراق وتدمير النسر، فجمعهم وحرقهم.
جمع هيرودس في سياسته بين التقوى اليهودية والإنفتاح على الثقافة اليونانية الرومانية. بنى ملعباً لسباق الخيل ومسرحاً خارج سور المدينة لكي لا يُزعِج اليهود في معتقدهم. في سنة 27 ق.م أقام أول ألعاب أولمبية. في السامرة كانت له الحرية الأكبر في البناء، فبنى هيكلاً لعبادة قيصر. إعتبر الرومان أنَّ حكم هيرودس كان كبيراً ولذلك سمّوه هيرودس الكبير.
أما في إسرائيل فهو مكروه من الشعب، وذلك لعدة أسباب:
- لأنه أدومي.
- وصوله إلى الحكم جاء عن طريق الرومان.
- رفضه الشعب لطباعه الإجرامية (قتل أطفال بيت لحم ـ متى 1).
مَلَكَ هيرودس لوحده قاتلاً كل أقربائه، جمع السلطة بشخصه ولا سلطة لغيره. فالكهنة لا سلطة لهم، فينغلقون على ذواتهم ويكرّسون وقتهم لدراسة الكتاب المقدس، ويحفظ التاريخ إثنين منهم هما هلّال وشمّاي أسّسا مدرستان للكتاب المقدس. مات هيرودس سنة 4 ق.م. بعد موت هيرودس بدأت حقبة من الفوضى والإضطرابات، فهنالك أربعة حكّام سيحكمون وراء هيرودس بقرار من أوغسطوس:
- هيرودس أنتيباتروس يحكم على الجليل.
- أرخلاوس يحكم على اليهودية وأدوم والسامرة.
- صالومي تحكم على أشدود وأشقلون.
- هيرودس فيليبوس يحكم على طراخونيتوس.
في وقت لاحق يُجبر أرخيلاوس على ترك عرشه وتصبح اليهودية تحت حكم كيريناوس الذي قرّر حسب لوقا (الإكتتاب).
نتائج الحقبة الرومانية:
- نمو وانتشار البدع والأحزاب السياسية الدينية.
- الحكم هو بيد ملك غير يهودي .
- هذا الأمر سيولّد في النفوس تيار الرجاء المسيحاني.إذاً وصول المسيح أمر محتّم يجب أن يأتي.
فالضغط السياسي الذي عاشه اليهود ولّد الكتابة الرؤيوية.
في هذه الحقبة يولد المسيح.